\”وسألنى ليه الأسعار مرتفعة؟ فأجبت بأن المشكلة فى ارتفاع تكلفة معيشة المواطن، وليس فى السلع نفسها، إضافة إلى إنخفاض الدخول، ونحن نحتاج إلى رفع دخل المواطن علشان يقدر يعيش حياة أفضل، وذلك يتطلب إنتاجأً واستثمارا يسهم فى رفع مستوى الدخول\”
يمكن بسهولة أن نتصور أن السؤال والإجابة السابقين، هما جزء من دردشة بين اثنين من الموطنين على سبيل تمضية الوقت أو إضاعته، وبالتالى – إستثناءً – يمكن قبول أن لا يكون السؤال واضحا تماما، وأن تكون الإجابة ليس لها علاقة بالسؤال وليس لها معنى أيضا.. المفاجئ هو أن يكون السؤال من رئيس الجمهورية والإجابة من وزير التموين، كما نشر على لسان الوزير فى تصريحه لجريدة الوطن!
في نفس الأسبوع كان هناك سيل من التصريحات من مسئولين كبار على نفس مستوى إجابة السيد الوزير؛ وزير الكهرباء يصرح بأنه يفتح \”الجاكيت\” حتى لا يقوم بتشغيل التكييف، رئيس هيئة ميناء القاهرة الجوى يصرح بأن وجود \”حمار\” بجراج المطار واقعة مدبرة، ورئيس هيئة الطرق والكباري يقول إن الكوبري المنهار مازال في \”الضمان\”!
هل يمكن فصل تصريحات بهذا المستوى من مسئولين، عن أداء المؤسسات التي يديرها هؤلاء المسئولين؟
قلة وأحيانا إنعدام كفاءة أجهزة الدولة، ومن يديرونها واقع يصعب إنكاره مع كل هذه المشاكل – وأحياناً الكوارث – التي تحدث بكثرة ويتحدث المسئولون بشأنها بهذا التسطيح والاستفزاز في تصريحاتهم لوسائل الإعلام، ويبدو أيضاً –للأسف- في إجاباتهم على أسئلة رئيس الجمهورية الذي لم نعرف ردة فعله بعد إجابة وزير التموين على السؤال!
الأسئلة الأهم في نظري هي عن كيف يصل محدودي الكفاءة إلى مناصب عليا في الدولة المصرية – والأمثلة كثيرة؟ ما هي آليات الصعود؟ هل محدودى الكفاءة إستثناء؟ كيف \”تدور\” أجهزة الدولة هذه الماكينة /\”النظام\” العملاق؟ كيف يتغير أداء أجهزة الدولة في وجود من هو كفء أو محدود الكفاءة؟ هل هناك فارق في أداء أجهزة الدولة المصرية في خلال ما تعاقب على مصر منذ 25 يناير أو حتى ما قبلها؟ هل هناك فروق جوهرية بين أداء وزارات علي لطفي أو عاطف صدقي أو عصام شرف أو هشام قنديل أو إبراهيم محلب؟ هل نقص كفاءة القيادات هو سبب ضعف أداء الأجهزة؟ ما معنى ما تردد بعد عزل مرسي من ضرورة وجود رئيس \”تطيعه أجهزة الدولة\”؟ لماذا يبدو أن أجهزة الدولة تحتاج إلى \”ترويض\” وإجبار على الطاعة؟
محاولة إجابة الأسئلة السابقة، ربما تقود إلى إستنتاج بأن المشكلة أكبر من كفاءة قيادات أجهزة الدولة أو عدمها، هل تحسن مستوى التعليم مثلا بتغير أسماء وزراء التعليم على مدى الثلاثين عاما السابقة؟ هل قلت حوادث القطارات بتغير أسماء وزارء النقل؟
يبدو أن تصميم منظومة (System ) إدارة الدولة المصرية بأكملها هو مصدر نقص أو إنعدام الكفاءة.. كيف؟
يُعرف خبراء النظم أي \”نظام/ منظومة/ سيستم\” بأنه مجموعة من العناصر التي تتصل فيما بينها بعلاقات بينية تكاملية لتأدية وظيفة ما أو تحقيق هدف ما. عند محاولة رؤية أجهزة الدولة المصرية في ضوء هذا التعريف، نكتشف بسهولة أن هناك أعطاب في المكونات الثلاثة للمنظومة: \”العناصر\”؛ مادية ومعرفية وبشرية، \”العلاقات\” التي بها تتصل العناصر و\”الأهداف أو الوظائف\” التي بها يتم تعريف المنظومة.
من السهل أن نلاحظ أن العديد من أجهزة الدولة، إن لم يكن أغلبها، لا تقوم بتحقيق أهدافها/ وظائفها – إن كنا نعرفها من الأساس، مخرجات/ منتجات أجهزة الدولة المصرية قليلة أو عديمة الجودة، لنأخذ التعليم الحكومي كمثال، العملية التعليمية بدءا من طابور الصباح حتى امتحانات آخر العام بلا تعليم وبلا هدف، هي بلا منتج حقيقي، هي ماكينة تدور بشكل آلي عام بعد عام بلا عقل، هدفها الوحيد هو \”الدوران\” نفسه أو \”استمرار\” العملية التعليمية كما يصرح مسئولو الوزارة دائما.. يمكن القياس على بقية أجهزة الدولة؛ \”دولاب العمل\” – ذلك التعبير الذي كان من المعتاد استعماله في أروقة ومتاهات البيروقراطية المصرية – يسير وتتدهور معه المخرجات يوما بعد يوم.. تبقى \”هياكل\” الأجهزة والمؤسسات ومعها \”وهم\” الحركة و\”الدوران\” بلا منتج حقيقي.. أزعم أن غالبية أجهزة الدولة المصرية مصممة وهدفها أن \”تدور\” لا أن \”تنجز\”.
هنا لا يهم من يدير هذه المؤسسة أو تلك، الحاكم الحقيقي هو الماكينة/\”المنظومة\” نفسها، \”المنظومة\” تخلق لنفسها مسارات لإعادة إنتاج ذاتها ودورات الأداء في داخلها بشكل تكراري روتيني لا ينتهى، وتكتسب مع كل دورة زخما وقوة دفع، تجعل محاولة اعتراض طريقها أو تغيير إتجاهها في منتهى الصعوبة.. هنا يمكن فهم لما يتصور البعض أن أجهزة الدولة تحتاج إلى رئيس قوى يروضها على الطاعة، ويمكن فهم أيضا لماذا سيفشل أي رئيس \”قوي\” في فعل ذلك.
المعضلة ليست فقط في وجود \”أعطاب هيكلية\” في المؤسسات والأجهزة الرسمية، بل أيضا في علاقات معيوبة ومواقع خاطئة لنقط إتصال أجزائها الداخلية ببعضها واتصالها بالأجهزة الأخرى خارجها، وبالتالى عجزها عن تحقيق أي هدف بشكل مكتمل أو أداء أي وظيفة حقيقية بشكل جيد.
\”السيستم\” قادر على تكوين لجان ينبثق منها لجان أخرى، ثم لجان أخرى لحل المشكلات، لكنه غير قادر على حل أي مشكلة تماما.. مشاكلنا جميعها – تقريبا – أضحت مزمنة.
هل تذكرون مجلس علماء مصر الإستشارى الذي شكّله رئيس الجمهورية بعد إنتخابه؟
المزعج أيضا هو أنه مع تراجع مستوى المخرجات مع كل دورة للـ \”سيستم\” يتراجع مستوى القيادات.. هم قيادات على قدر وحجم ما يؤدونه، ومن يأت من خارج \”السيستم\” يقهره \”السيستم\”.. هنا لابد دائما البحث عن \”صنايعية\” الدولة- من يملكون مفاتيح \”الدوران\” حتى ولو كانوا بلا أي إنجاز حقيقي- لإعادة تدوير الماكينة ودولاب العمل.. يبدو استدعاء اسم السيد كمال الجنزورى في كل وزارة منذ الثورة وحتى الآن مثالا دالا.
سؤالان أخيران: هل هذة الحالة قدرية لا فكاك منها؟ هل تطوير الماكينة/المنظومة \”علشان تطلع قماش\”- مثل ماكينة الأستاذ فؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي- مستحيل؟ الإجابة: \”لا\” قاطعة. هل الحل هو \”إعادة الهيكلة\” بمنطق تغيير بعض القيادات وإعادة تقسيم الإدارات والأقسام ؟ الأجابة \”لا\” أيضا.
يعرف خبراء النظم وأخصائيو \”التفكير في النظم\” أن الحل في حالتنا يبدأ بإعادة تعريف \”أهداف\” أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية كلها.. يجب أن نعرف لماذا يوجد في حياتنا \”نظام\” يسمى \”الهيئة المصرية العامة للكتاب\” أو \”مصلحة الكيمياء\” أو \”جامعة القاهرة\” أو\”وزارة التخطيط\” أو سمي ما شئت من أجهزة ومؤسسات.. هذا بالطبع لا يمكن فعله إلا فى إطار أشمل يعيد تعريف أهداف \”النظام\” الأكبر: مصر.. الخطوة التالية هى إعادة توصيل أجزاء ومكونات كل \”نظام\” بشكل جديد، ثم رسم آليات أدائه – ديناميات \”السيستم\” وحركيته- لتحقيق أهدافه وأن تنتظم وتتصل كل الأجهزة والمؤسسات لتحقيق أهداف مصر والمصريين، التي لازلنا نصر عليها: عيش، حرية، عدالة إجتماعية. تحقيق هذا لا يحتاج إلى \”قوة\”.. يحتاج إلى \”معرفة\”؛ إلى علم وأدوات حديثة وعقول وخيال.. ساعتها ربما لن يكون هناك مكان لمحدودي الكفاءة.. ساعتها ربما نصرخ: \”الحلوة إتكلمت.. طلعت قماش\”.