\”بالطول. بالعرض.. مفيش كنيسة على الأرض\”.. هتاف مبتذل مقتبس من سياقات أخرى يهتفه مجموعة من مواطني قرية \”العور\” – على حسب المعجم، أعور: من فقد إحدى عينيه، والجمع: عُور، والمؤنث:عوراء، كل ما ينجزه يؤكد أنه \”أعْوَرُ\”: لا ينجز إلا ما هو سئ و ردئ-
قرية العور، قرية فقيرة من قرى مركز سمالوط – محافظة المنيا – ما يقرب من نصف ساكنيها من الأقباط. القرية بنيتها الأساسية سيئة للغاية.. تعاني نقصا فى كل الخدمات.. نقصا في مياه الشرب وانقطاعات مزمنة للكهرباء.. القرية قتل من أبنائها أربعة عشر شابا منذ أربعين يوما فى استعراض وحشي متلفز على يد جماعة إرهابية تقدم نفسها على أنها ممثلة للإسلام.
الدولة المصرية ورئيسها تعويضا لأهالي الشباب المغدورين، وتعويضاً لأمهات وزوجات حزانى وأطفال أصبحوا أيتاما، قررت بناء كنيسة بالقرية.
لم تفكر الدولة ولا رئيسها – ويبدو أن أهل القرية لم يفكروا كذلك- في إنشاء مدرسة أو مستشفى.. لم يطلب أحد فيما يبدو تحسين بنية القرية الأساسية المتهالكة.. لم يفكر أحد في مستقبل أطفال القرية كى لا يضطروا يوما للسفر إلى حيث قتل أباؤهم!
الدولة تعوض\”طائفة\” قُتل \”رعاياها\” بإنشاء دار عبادة وسط قرية خربة! و\”طائفة\” أخرى ترفض وتتظاهر وتهاجم كنيسة وتحرق سيارات، ثم القبض على بعض \”مثيري الشغب\”، ثم \”جلسة صلح عرفية\” – برعاية وزارة الداخلية – ثم اتفاق على إنشاء الكنيسة – حتى لا يغضب رئيس الجمهورية – بشروط جديدة ترضي الطائفة المعترضة! ثم الإفراج عن المقبوض عليهم، ويحيا أهل القرية فى تبات ونبات وتمتلئ القرية بالمساجد والكنائس، ويموت أبناؤها غير المؤهلين لأي شئ هنا أو هناك بحثاً عن \”رزق\” شحيح!
ثم يبقى الوضع على ما هو عليه، فمنذ عهد \”الرئيس المؤمن\” أنور السادات تحتفظ الدولة / النظام – أى نظام – بورقة الدين / الفتنة، كأحد أوراق \”الكوتشينة\” السياسية الرابحة.. يتم إبرازها أو إخفاؤها على حسب سير أحداث اللعبة: إبرازها لتخويف الغرب من التطرف الإسلامى أو اكتساب أصوات الأقباط فى الإنتخابات أو تخويفهم، أو إلهاء المصريين عن أيامهم السوداء، أو إخفاؤها لإظهار استقرار مزعوم ومواطنة زائفة وإنجازات كاذبة تكمل منظومة الكذب التي احترفتها الأنظمة – جميعها – إلى الآن.
يتطور الأداء.. يذهب رئيس الجمهورية الحالي في سابقة أولى تسعد كثيرين إلى الكاتدرائية المرقسية للتهنئة بعيد الميلاد، ويوقف له بطريرك الأسكندرية الصلاة ليلقي كلمة قصيرة ومزيدا من \”التبات والنبات\”، لكن حين تصل الأمور لتغييرات حقيقية جذرية لما يمثل تمييزا حقيقيا ضد المواطنين الأقباط أو ما يمثل إفتئاتا على حقوق كل المواطنين المصريين، هنا تصبح الدولة المصرية \”ودن من طين وودن من عجين\”.
التمييز الدستورى أو القانونى والممارساتى ضد الأقباط أو المرأة أو الفقراء أو أهالي النوبة أو سيناء أو كل المواطنين المصريين إلا من يحكمون.. العدالة الإجتماعية، وتكافؤ الفرص، والاقتسام العادل للموارد، والتنمية المتكافئة، ما أن يثار كل هذا – وهو السبيل لإنهاء الفتنة – حتى تعود الدولة إلى الأداءات القديمة، ويذهب النظام فى بيات سياسى شتوى امتد فى حالتنا هذه على مدى كل فصول الأربعين عاما الماضية.
ربما يكون موقف الأنظمة مفهوما.. العجيب هنا هو موقف تلك المجموعات من المواطنين – مسلمين وأقباط على سبيل الوحدة الوطنية – هذا الخلل المدهش فى ترتيب الأولويات لديهم فى وسط حياة جحيمية ومعاناة يومية على كل المستويات، فقد القدرة على التمييز بين ما هو جوهري وما هو سطحي تافه.. تلك الرؤية \”العوراء\” للآخر الديني.. حالة الإنكفاء على الذات وامتلاك الحقائق المطلقة ونقض الخبرة المصرية فى التنوع والتفاعل، وأيضا رفض رؤية حالة تقترب من الفشل الكامل لدولة، هى سبب رئيسى لكل ما نحن فيه.. كل هذا يجعلهم دائما مناسبين ومستحقين لموقع \”المفعول به\”.
أظن أن الأمل فى أجيال أصغر تحيا في عالم جديد.. عالم أكثر رحابة وحرية، في أن يتحركوا تاركين ورائهم دوائر الانتماء الأضيق – وإرثها – بحثا عن وطن أفضل، مطالبين بأولويات حقيقية للجميع: عيش وحرية وكرامة وعدالة اجتماعية.
هم الأمل فى استعادة لحظات التفاعل والاندماج المصرية وإعادة خلق \”المواطنة\” الفاعلة – الغائبة – قاعديا، وفرضها على الدولة كي يصبح من حق الجميع وبدون إستثناءات حياة كريمة وعادلة، ومعها حرية عبادة مطلقة وحرية سياسية.. حرية حقيقية كاملة – للجميع- في حزمة واحدة، كي يصبح من حق الجميع ممارسة الحياة بتفصيلاتها، في دولة لجميع مواطنيها، فلا أحد هو \”صاحب الوطن\”، كي يكون من حق أبناء وبنات \”العور\” تعليم جيد ورعاية صحية وعمل وفرص عادلة ومستقبل، وأيضا كنائس ومساجد لمن يريد.. حينها ربما لن نسمع ثانية هتاف: \”بالطول.. بالعرض\”.