اعترف أنني شعرت بالخوف حين شاهدت التقرير الذي قدمته أماني الخياط عن المخرج محمد دياب، بمناسبة مشاركة فيلم \”اشتباك\” في مهرجان \”كان\”، واعترف أنني تذكرت فيلم \”الكرنك\”، وأنني تأملت احتمالات أن يتعرض صناع الفيلم للخطر بسبب هذا التقرير، وفزعت!
وأنني شعرت باليأس من إمكانية أن نختلف بطريقة تليق بنا، لأن هذا المستوى من الخلاف يشعرني بالخزي، والإهانة، وأنني الآن اصبحت غير قادرة على نقد الفيلم، أو النقاش مع دياب أو غيره حوله، لأنني لا اريد المشاركة في تعريضه للخطر، وأن \”الخياط \” (للمفارقة هذا اسمها)
حرمتنا من هذا النشاط الممتع، وهو مناقشة الأفلام بعد مشاهدتها، ونقدها بشجاعة واحترام، إذا لم تعجبنا لأي سبب من الأسباب، وشعرت باشمئزاز لما قالت إنه من غير الممكن أن يصبح مخرج مشهورا أو موهوبا طالما أنه لم يتخرج من معهد السينما، كأنها لم تسمع عن محمد خان ولا يسري نصر الله ولا عمرو عرفة، ولا حتى صلاح أبو سيف، الذي لم يتخرج أي منهم من معهد السينما.
لقد غضبت لما أكدت \”الخياط\” أن الأفلام المصرية لا تذهب إلى مهرجانات دولية إلا لغرض سياسي، وجال في خاطري أننا نحب الناس والدنيا وأنفسنا، ونثق في وجود البهجة، ونبحث عنها، ونفرح بانتصاراتنا الصغيرة كما الكبيرة ونحزن لهزائمنا وغلبنا بكرامة ونبل.
لماذا تخرج علينا هذة السيدة لتؤكد لنا أننا بلا قيمة وبلا كرامة، وأن العالم يحتقرنا ويستعملنا ويكرهنا ويتآمر علينا، مدعية أنها تحب البلاد؟!
**********
اود أن اذّكر نفسي قبل غيري، أن الدفاع عن حرية الإبداع غير مرتبطة بنوع المنتج ولا جودته ولا توجهات صنّاعه، وأن كراهيتنا لأي فيلم يجب أن تتحول إلى نقده فنيا، أو صناعة فيلم يناهضه. أما أن نلجأ لتشويه سمعة الفنانين، والتشكيك في نواياهم، واتهامهم بتهم تلوث شرفهم، أو تعرض حياتهم للخطر، أو تعرضهم للسجن، فنحن نكون قد تشابهنا مع من حاول أن يغتال نجيب محفوظ، ومن نجح –للأسف- في اغتيال فرج فودة، لأن هؤلاء القتلة تحركوا وفقا لفتوى أن هذا الشخص نواياه غير سليمة، وأننا يجب أن نقصيه من حياتنا \”الرائعة\” حتى لا يلوثها بأفكاره المسمومة،
وهذا أمر مضحك ومبكِ ومدهش! أن يصبح الإعلاميون اليوم هم من يصدر هذا النوع من الفتاوى على الفنانين، بل إنهم يشبهون شيوخ الفتاوى القاتلة الذين اعتادوا أن يلخصوا القرآن وشروحاته على مريديهم.. هكذا لخصت أيضا أماني الخياط الفيلم لجمهور لم يشاهد الفيلم أصلا، محاولة إقناعه بخطورة الفيلم!!
وبعض من الجمهور اقتنع فعلا دون أن يشاهد الفيلم! تماما مثل هذا الذي لخص له الشيخ القرآن، واقنعه أن يقتل فرج فودة.. ففعل.
نحن من جانبنا لا يجب أن ننزلق أبدا للتماهي مع القتلة، ولا من يفتون لهم، مهما اختلفنا مع الأفكار أو الأفلام.. نحن كمواطنين وفنانين من مصلحتنا المباشرة إعلاء قيمة الخلاف الشفهي، ونبذ خطابات الكراهية والتحريض ومحاربة الإقصاء، والدفاع عن وجوب استقلال الفنان، ولكن:
لماذا يجب أن نجتهد جميعا ليبقى الفن مستقل؟
لأن الخيال هو ما سمح للإنسان بصناعة الحياة وتطويرها، وليست النظم والسياسات، والفوضى والجموح هما من سمحا لأرعن بالتفكير بأن يرى أن زيارة القمر ممكنة، وأن السفر حول العالم للاكتشاف فكرة جيدة، والخيال هو المسبب الأول لجميع المخترعات العلمية وغير العلمية، وليس الطاعة ولا الرضا ولا النظام والانضباط.
الإبداع الفني في أصله تعبير شخصي عن مشاعر وأفكار الإنسان تجاه نفسه، والعالم لما تحول إلى عملية استثمارية بحكم ما آل إليه وضع العالم (السياسي والاقتصادي)، لم يفقد أبدا هذا الجانب \”الشخصي\” لأنه ببساطة عندما يفقده، يفرغ من معناه.
وظل صراع دائم بين الأطراف المختلفة:
الفنان – المؤسسة التي تنتج الفن وتسوقه – السلطة التي تحكم قوانين الانتاج وتحاول أن تحكم أفكار البشر – من يستهلكون الفن، أي من يعرفوا بالجمهور.
كل طرف يحاول أن يثبت ملكيته للحق في قرار: ماذا ينتج؟
والسينما، بما أنها عملية جماعية (مثل كرة القدم)، ولارتباط انتاجها بالأسواق، كانت من أهم المجالات التي تجلى فيها هذا الصراع.
ظل الفنان يصارع رغبات الجمهور، الذي يود إعادة انتاج المألوف، ولا يريد أن يسمع عن أفكار ومشاعر جديدة تهز المسلمات الذي اجتهد للحفاظ عليها، لأنها تراعي مصالحه وتهديء خوفه، كما يصارع الفنان رغبات المنتج والموزع الذي يود أن يرضي الجمهور بإعادة انتاج القديم الثابت ولو كان باليا، وفي نفس الوقت محاولة إبهاره ليعود لقاعة العرض دوما،
ويحاول أيضا تلافي الصدام مع السلطة، بل قد يميل لإرضائها، ولو بالضغط على الفنان، لأن الصدام مع السلطة قد يعني انهيار المشروع بالكامل.
والفنان الذي يريد الشهرة والمال والاعتراف به، يصارع أحيانا أفكاره الخاصة ومشاعره، ويحاول تكييفها ليسترضي الجميع، ويظل الفيلم ملكه في نفس الوقت، ويحمل توقيعه عن حق، أي يعبر حقا عنه.
ملحوظة: الفنان هو أي مواطن يود أن يبدع، بغض النظر عن مستواه، وعن رأينا فيما يقدمه، اعني بهذه الملحوظة أن الفنان هو كل المواطنين إذا ارادوا، وليس نوعا خاصا من البشر، وإنما هو الشخص الذي اختار بحرية أن يخاطب العالم عبر وسائل التعبير الفنية.
ظلت محاولات كثيرة للسيطرة على الفنانين عبر كل العصور تبوء دوما بالفشل، لأن الغرض منها دوما يكون انتاجا فنيا يروج لفكرة سياسية أو دينية، ليقنع بها من لا يخاف ولا يصدق الفكرة، والحقيقة أن هذا الغرض لم يتحقق أبدا، ولو رضي الفنان، ولو كان مقتنعا بما يروج له.
لمّا ظهر التلفزيون، بدا كأنه سيحل المشكلة ويسيطر على جموح الفنان ويمنعه من الحرية والاستقلال وينتصر للسلطة والمنتجين والجمهور، لأنه مستخدم لوسائل شبه فنية، فيستطيع أن يهدم الفن والفنان، وانتشر استخدام الإعلام للتشهير بالفنانين غير المدجنين، المختلفين مع موقف السلطة أو اختياراتها السياسية، أو موقف المؤسسة الدينية، أو حتى موقف الأسر المحافظة، والتشهير يتضمن التشكيك في وطنيته، وقد يذهب للتشكيك في أخلاقه وشرفه بغرض ضرب مصداقيته.. خوفا من أن يحمل فيلمه فكرة لا يريدون أن يتعرض لها أحد.
وانتشرت مقولات مثل: الفن الهادف – الفن الثوري – سمعة البلاد – خدمة أغراض خفية – تهديد الأمن الوطني – الدعوة للانحلال – فن يحافظ على الأخلاق وينشر الفضيلة…إلخ.
والحقيقة أن البلاد ليست سيدة لها سمعة تلوث، وليست الأفلام جلسات نميمة تلوث سمعة السيدة الوهمية، والحقيقة الأخرى في ظني أن استعمال الأفلام للدعاية، سواء للسلطة أو للثورة هو تقليل من القيمة الفنية لأي فيلم، وأنه أمر بلا جدوى.
لا اتذكر فقط المكارثية مثل معظم زملائي، عندما يتعرض فنان للتنكيل بسبب اختياراته، وإنما اتذكر أيضا الاتحاد السوفييتي والمؤسسة الإيرانية.. ثلاث تجارب شهدتها الإنسانية، تجلي فيها دور الإعلام في تأطير الفن لخدمة السلطة، وهم -ظاهريا- يدافعون عن أفكار متصارعة، إلا أنهم يستخدمون نفس الوسائل للقمع، وللتشهير بالفنان الذي خرج عن الإطار، ومحاولة إقصاء العاصي وإدانته، ومحاولة استخدام السينما كبوق دعاية بتشجيع إنتاج أفلام تروج لأفكار بعينها، بقصد إقناع الناس بها.
ولكن هل سمعنا عن جماعة أو فرد تغير موقفهم السياسي أو غيروا ديانتهم مثلا بعد مشاهدتهم لأحد الأفلام؟
الحقيقة أن هذا لم يحدث، وأن كل المدافعين عن تأثير السينما يكذبون بشأن مسألة خطورة السينما، أو يحيدون عن الدقة.
ليست السينما قوة، ولا ناعمة ولا خشنة كما روج الإعلام، ولا تغير الأفلام قناعات البشر مثل حقنة الهواء، إنما ما يحدث حقا أن الفنان السينمائي الذي يحمل فيلمه أفكارا ومشاعر وصورا، تبقى في وجدان الإنسانية، سواء كانت قبيحة أم جميلة، سواء وافق عليها المجتمع أو رفضها، إلا أن أهمية عرضها عليه، تكمن في إعادة فرز أفكاره وثوابته، وتشجيع كل الناس على التأمل وإعادة النظر، قد تكون النتيجة أن المجتمع يتشبث بما يختاره، أو يؤجل تغييره، أو يغيره، ولكن على أي حال، طرح الأفكار الشخصية المتفردة على المجتمع تجدد الدماء، وتعيد الحياة الذهنية للحركة، بعيدا عن البلادة.
وهذا أمر اتفق الجميع على أنه خطر، واتفق الجميع على خطورة الأفلام لأنها سهلة الاستهلاك والتعاطي.
هناك حقيقة لا ينساها أو يتجاهلها إلا الغافلين، وهي:
أن الفن أقدم من محاولات تدجين الفنانين من قبل السلطة أو أصحاب الأفكار والسياسات.
وإجابة على السؤال الأول: \”لماذا يجب أن نجتهد جميعا ليبقى الفن مستقلا؟\”
اظن أن السبب، هو تجديد الخلايا الجذعية للإنسانية، ولنبقى أحرارا في اختياراتنا، غير منساقين.. غير موكلين إلا خلايا مخنا للتفكير.