أنا إنسانٌ. نشأتُ من ماءٍ مهينٍ مثل سائر البشر، مررت بكل مراحل الخلق آمنًا في رحم أمي إلى أن نفخ الله فيَّ من روحه مثل سائر البشر، كرمني كإنسان وفضلني على خلقه مثل سائر البشر، ويومًا بعد يومٍ صرت أنمو وأكبر، وفي كل يومٍ يعلمونني أنني لستُ مثل سائر البشر!
في بداية عهدي بالحياة تلقيت الدين ككل البشر عن أبي وأمي، ثم بعد ذلك بقليلٍ عن رجال ديني المقدسين لديَّ ولديهم، علموني أن هناك إلهًا خالقًا لهذا الكون، وأن هناك رسولًا حمل رسالته من السماء إلينا، وأن هناك بعثًا بعد الموت وحسابًا لنا على أعمالنا، وهناك مصير منتظر إما جنة لمطيعي أوامر الإله وإما نار لعُصاته، علموني كثيرًا من المبادئ السامية لديني؛ حب وخير وسلام وعدل وتسامح. إلخ، روُّوا لي مئات القصص عن رجال ديننا الصالحين وأعمالهم الطيبة، وأنا أسمع منبهرًا مرددًا في نفسي \”ما أجمل هذا الدين وما أجمل رجاله\”.
بعدما كبرت قليلًا علموني أن هناك فرقًا بيني وبين جيراني وزملائي المختلفين عنِّي في الدين، فأنا مميز عنهم، ومميز عند الله لأنني وُلدت على الدين الحق، أما هم فعقيدتهم مشكوك فيها لأن البعض قام بتحريفها وتبديلها، ولا سبيل لنجاة هؤلاء ولدخولهم الجنة أيًا كان عملهم إلا بتغيير دينهم واتباع ديني، وتساءلت بسذاجة وبراءة \”ألا يحبون دينهم مثلي؟ كيف إذن يغيرونه بسهولة؟\”
أوصوني بالتقليل من اللعب معهم وبأفضلية تجنب اللعب في المطلق، وبالحذر الشديد من مصاحبة الحب لِلْلعب، حيث إنهم حتى وإن أظهروا ليَّ الحب فهم يبطنون الكره المؤكد! وتساءلت مرة أخرى \”ولكني لا أرى في عيونهم كرهًا فهل يلصقون عيونًا زائفة فوق عيونهم الأصليه؟\”
مرت الأيام وصرت أكبر. وفي كل يوم يضيفون إليّ تعاليمهم وفي كل ساعة يضيقون دائرة أحبائي ورفقائي في النجاة، فمع طلوع نهار يومٍ أُخرج منها أبناء مذاهب ديني المختلفة عن المذهب الذي وُلدت عليه، وفي منتصفه أُخرج منها المختلفين عني في الأفكار والرؤى، وفي آخره أُخرج منها المختلفين عني في المظهر، وقبل طلوع نهار جديد أُخرج منها المختلفين عني في نوعية الذنوب والمعاصي المستصغرة من وجهة نظرى ونظر من يلقونني!
علموني أن كرهي للمغايرين هو كره للباطل وهو لنا حق، بل يكاد يكون أمرًا من الله لنا وتقربًا إليه بصالح الأعمال!
علموني أيضًا أن أتباع ديني الأوائل كانوا ملائكةً تمشي على الأرض، معصومون لا يخطئون ولا يضعفون ولا يطمعون ولا يظلمون ولا يُفتنون!
علموني أيضًا أن كل ما خضناه من حروب كانت تصطبغ بصبغة القداسة، وكانت قطعًا لإعلاء شأن الدين أو نشر دعوته أو نُصرة المستضعفين من أتباعه بل وغير أتباعه أيضًا، وهذا بالقطع يختلف عن حروب الآخرين التي كانت أطماعًا استعمارية بحتة يُستغل فيها الدين ويُتخذ كقناعٍ مموَّه.
كنت أنهي كل يوم قراءتي في كتابي المقدس، ثم أقيم صلاتي التي أواظب عليها منذ طفولتي، ثم أرفع يدي لله عز وجل داعية ذاكرة شاكرة، ثم استلقي على فراشي وأذهب في سبات عميق، وأحلم بدخول الجنة مع أقراني وتمتعنا بنعيمها وحدنا.
وذات يوم حلمت بأني أقف على باب الجنة. أعد الدقائق. تتصاعد أنفاسي. لحظات مثيرة من الشوق والترقب. وأخيرًا فُتح الباب ودخلت وأغلقته ورائي، واستدرت لأمتع عيني بالنعيم، ولكني صُعقت من هول ما رأيت.
كانت الجنة فارغة تمامًا، فارغة من الناس وفارغة من النعيم، صحراء جرداء لا شيء فيها على الإطلاق سوى مرايا في كل مكان، نظرت فيها فإذا بي أُفاجأ بصورة إبليس وبملامحه التي نسجناها له في مخيلتنا منذ الطفولة! يا إلهي. كيف حدث هذا؟ كيف تبدلت ملامحي هكذا؟ وأخذت أصرخ وأصرخ، واستيقظت من النوم وأنا أحاول أن أجد تفسيرًا لما رأيت، أيامًا وأيامًا وأنا أفكر؛ ما وجه الشبه بيني وبين إبليس؟ إبليس يكره بني آدم جمعاء، إبليس يتمنى أن يدخل أكبر قدر من البشر النار بوسوسوته وغوايته، أما أنا. يا إلهي إنني أفعل الشيء نفسه دونًا عن الغواية، كيف يمكن أن أدخل الجنة وفي قلبي كل هذا الكره لخلق الله وكل هذا الكِبر عليهم!
ما هذا الضلال الذي صور لي أن الله يمكن أن تنتفي عنه صفة العدل؟ فيصطفي بشرًا لمجرد ولادتهم على دين معين ويضطهد بشرًا لولادتهم على دين آخر؟ ويفرض على بشر ضرورة البحث والتنقيب عن صحيح الديانة وتنقيتها من الشوائب، بينما يتجرع البعض الآخر كل الشوائب والعوالق مستمتعًا متلذذًا نافيًا وجودها في حلقِه!
ما هذا الضلال الذي صور لي أن الله يتقبل صالح الأعمال ومساعدة البشر من أبناء ملة ولا يتقبلها من ملة أخرى؟ وهو الذي أدخل الجنة رجلًا سقى كلبًا وأدخل النار امرأة حبست هرة -هل نعلم دين هؤلاء؟- فما بال مساعدة البشر التي قد تكون صدقة جارية يظل عمل ابن آدم موصولًا بسببها بعد وفاته؟
ما هذا الضلالُ الذي صور لي أن الله السلام المحبة يرضيه ويسعده أن يكره البشر بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا لاختلاف على دين أو مذهب أو فكر؟ بدلًا من أن يتعاملوا بود وحب وسلام باحثين عن نقاط الالتقاء ولو كانت قليلة منحيين جوانب الاختلاف وإن كثرت، ألم نفهم من إباحة زواج المسلمين من أهل الكتاب في شريعة محمد ماذا يريد الله؟
ما هذا الضلالُ الذي صور لي أن ديني عزيز عليَّ وهين على الآخر؟ وأعطاني الحق أن أسب دين الآخرين ورجاله المقدسين وأزلزل الكون غضبًا إذا تطاولوا هم على ديني ورجاله؟ ألم نفهم من مبدأ \”العين بالعين والسن بالسن\” في شريعة موسى ماهية عدل الله؟
ما هذا الضلال الذي صور لي أن يدخل الجنة كاره للبشر متمنٍ لعذابهم منقب عن أخطائهم معتقد أن الروح التي بثها الله في الآخرين أدنى قدرًا من روحه؟ ألم نفهم من تعاملات محمد ووصايا عيسى لتلاميذه وقول موسى الليِّن لفرعون كيف كان يتعامل الأنبياء مع المختلفين عنهم وإن كانوا أعداءهم؟
عفوًا أيها الكبار. لقد قررت أن أكفر بكل ما علمتموني إياه، وأن أؤمن بعدل الله ورحمته وتسامحه وحكمته ومحبته لخلقه أجمعين، قررت أن أرفع راية لم الشمل بدلًا من راية الفرقة، وأن أرفع راية الحب بدلًا من راية الكره، وأن أنحني تحت راية العبودية بدلًا من ضلال حمل راية الألوهية، وإن اعتبرتم هذا شذوذًا فسوف أصلي وأدعو لكم الله أن تشذوا مثلي وأن يهديكم إلى ديني.