في حلقةٍ لحفظ وتلاوة القرآن الكريم دار هذا الحوار:
– تنتابني الدهشة لمن يتمتع أبناؤهم بحلاوة الصوت وبدلاً من أن يتجهوا لتحفيظهم القرآن الكريم، يتجهون بهم للمشاركة في مسابقات الأغاني! والعجب كل العجب أنهم يتضرعون لله لتوفيق أبنائهم ويسجدون لله شكراً عندما يظنون أنه استجاب لدعائهم!
– إنه تناقض بيّن وصارخ!
– نعم – بالطبع- هداهم الله.
وحيث إن الحوار له مغزىً عميق، فلم يكن من الممكن أن يمر عليّ مرور الكرام، فهو يثير في العقل تساؤلاتٍ عديدة عن منطقنا في كيفية التعامل مع القرآن، وعن منظورنا لأمورٍ كانت وما زالت وستظل محل جدلٍ وخلاف.
ولنبدأ تساؤلاتنا الهادئة الرزينة بتساؤلين هامين للغاية لنا كمسلمين وهما: ما حكم حفظ القرآن الكريم؟ وما حكم فهمه والعمل بما فيه؟
حفظ القرآن مستحبٌ ومن أعظم القربات عند الله، ولكنه ليس بواجب على كل فرد وفقاً لأقوال الفقهاء، فماذا عن فهم القرآن؟ يقول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما\” أن ترتيل القرآن مع التدبر مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة\” ، حيث إن الأصل هو تدبر المعنى وفهم واستنباط الحكمة من الآيات وما تحتويه من أوامر ونواهٍ وتكليفات، وهذا الفهم هو ما يمكننا من العمل بالقرآن الذى نُزّل قطعا لهذا الهدف، فهل هناك مسلم يخالف هذا الرأي الذى وفقاً له يصبح الفهم والعمل بالقرآن واجبا على كل مسلم؟ فكم منّا إذن يقوم بهذا الواجب؟! وقبل أن تجيب بتسرعٍ، تذكر.. كم مرة سمعت مسلماً يستشهد بآيات القرآن في غير موضعها ودون وعي لمناسبة نزولها؟! كم مسلم يهوى الإعلان عن تدينه بتشغيل القرآن في بيته وسيارته وعمله دون أن يهتم بالإنصات لكلام الله الذى يعلم أنه يخاطبه بهذا القرآن؟! كم مسلم يتباهى بكثرة المصاحف وكتب التفاسير المختلفة المرصوصة بعنايةٍ في مكتبته دون أن يقرأ منها حرفاً واحداً؟ كم فردٍ و كم جماعةٍ وكم حاكمٍ في دولنا العربية المليئة بالحفظة والمجوّدين يطبق مباديء العدل والمساواة والرحمة والتسامح والشورى وحرية العقيدة والتعايش مع الآخرين وغيرها من المبادئ التي نادى بها كتاب الله؟ وكم سنةٍ في عمر إسلامنا طبقنا فيها هذه المبادئ؟ وكم سنةٍ فهمنا فيها معنى الاستخلاف في الأرض ومعنى تسخيرها لنا من قبل الله، وضرورة اكتشاف قوانين التسخير الكونية من قِبلنا؟ ومن نجح في هذا الاكتشاف نحن أم الغرب بعلمه وأدواته؟ (راجع منظور الاستخلاف وتسخير الأرض للشيخ محمد الغزالي – كيف نتعامل مع القرآن)، وأخيراً و ليس آخراً فكر ملياً.. هل توجد دولة إسلامية –عامة- وعربية ناطقة بلغة القرآن -خاصة- يمكننا أن نشير إليها ونقول إنها تعد نموذج حي للإسلام الوسطي السمح المتحضر الراقي وتطبيق عملي لكل ما جاء في القرآن؟!
فماذا عن أطفالنا الذين نحرص علي تحفيظهم القرآن ونتباهى بأصواتهم الجميلة؟
كم منهم يفهم معنى ما يحفظ، وكم منهم يردد كالببغاء؟ وكم منهم يؤثر حفظه للقرآن على سلوكه في مراهقته وشبابه، وكم منهم لا يتأثر مطلقا؟! وهل لو انصب اهتمامنا الأكبر على الشرح والتفسير والتطبيق العملي والقدوة المرئية منّا كآباء ومن المجتمع ككل – كان تأثر أبنائنا بالقرآن واستمرار هذا التأثر- سيكون أعظم أم أقل؟
إن أجبت على هذه التساؤلات بموضوعيةٍ، سترى أننا لم نحسن التعامل مع القرآن كما ينبغي، ولكننا نحزن فقط على حفظه ونفرح فقط لحفظه!
فلننتقل إذن إلى المحور التالي البارز في الحوار المذكور، وهو الاعتراض على الدعاء والسجود لله للتوفيق في مسابقة غناء! فهل هذا الاعتراض هو اعتراض على أمورٍ بعينها يُفترض تحريمها وفقاً لوجهة نظر البعض، أم هو اعتراض عام علي كل أمر يُشتم فيه رائحة اللهو.. كرة قدم – تنس – كوتشينة – طاولة.. إلخ؟ وهل إذا كان الدعاء معنيا بالفوز في سباق خيلٍ أو سباحةٍ أو رمايةٍ، هل كان الأمر سيختلف؟!
فأما عن الأمور التي يحرمها البعض، فأقوال علماء الوسط التي تحل حلالها وتحرم حرامها وأدلتهم عليها متاحة، وأقوال العلماء الأكثر تشددا متاحة أيضا، فابتغ منها ما شئت، ولن احاول إقناعك بإحداها، لأن قناعتك ثابتة في الغالب، ولن تتغير، ولكن ما أود طرحه هنا هو الاعتراض العام على اللهو والترفيه، والذي يقترن في الغالب بعبارتين شهيرتين أولهما الاستشهاد بآية \”ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه\”، وأحيل المرددين لها إلى أي كتاب تفسير، ليعلموا معنى الآية التى يستشهدون بها ومناسبة نزولها!
وثانيهما \”أن هذا اللهو هو شاغل عن ذكر الله عز وجل\”، فكيف يكون ذكر الله؟! هل يكون بالانقطاع لبعض الوقت لذكر الله باللسان فقط؟! أم يكون بحضور الله دوما وأبدا بقلب الإنسان، يتلقي توجيهه وينظر إليه كأنه يراه، ويخشاه ويحبه ويطيعه ويشكره ويستعين به ويسأله المغفرة؟ يذكره في عباداته ومعاملاته وعمله وعلاقاته وهواياته، يذكره وهو يمارس دوره كأب وكابن وكزوجٍ وكصديقٍ وكجارٍ، يذكره حتى في لحظات العشق والهيام، وفي أوقات الكره والخصومة، يذكره في الجّد الهادف، ويذكره في اللهو واللعب الذي لا غاية له سوى الترويح عن النفس، فيحمده على رواق البال وعلي صحةٍ جعلت اللعب سهلا، وهو للبعض بعيد المنال.
إن ذكره وفهم كتابه المقدس أياً كان.. سيراعي حرماته ويفلتر أفكاره قبل أن تخرج من رأسه، وسيستغل مواهبه وقدراته فيما يفيد وينفع ويرتقي بحياة عباده، وقد يفاجأ عندما يجد في كثير من الأحيان أن هذا يتفق مع معايير الاستحسان والتقدير الدنيوية في كافة مجالاتها!
وعندئذٍ ربما لن يجد حرجا في أن يحفظ القرآن ويغني ويلعب، ولن يجد ضررا في أن يدعو الله أن يعينه وينصره في أي أمر دنيوي، وإن كان لهوا، ولن يجد غضاضة في أن يفخر بإبنه إن تفوق في حفظ القرآن أو نظم الشعر أو عزف آلة أو غناء معان جميلة أو إجادة لعبة رياضية، كلٌ وفقا لمواهبه التي منحه الله إياها، ووفقا لما يسره الله له.