هالة الزغندي تكتب: عن ثقافة الموت

بداية أود أن أوضح أنني لا أنوي الدفاع أو الهجوم.. فقط دعوني أفكر معكم بصوت مسموع:

هوايتي منذ الصغر، ثم طبيعة عملي ككاتبة سيناريو، فرضتا علي تأمل البشر.. سبر أغوارهم وتحليل ردود أفعالهم.. لا يجب أن يتحكم بي الحب أو الكراهية.. فقط التعاطف مع الشخصية -بخيرها وشرها- هو ما يحكم طبيعة تناولي إياها عند الكتابة عنها.

استمتعت بفيلم the martian كما استمتع به الكثيرون لدرجة ترشيحه لـ \”الجولدن جلوب\”، ثم فوز الممثل مات ديون بجائزة أفضل ممثل عن قيامه بالدور الرئيسي للفيلم.

وفيما بعد المتعة، بدأت أجهزتي التحليلية في العمل.. ولكن مشهدا ما استوقفني كثيراً.. سيأتي ذكره فيما بعد.

دعوني ألخص رحلة البطل بإيجاز.. الفيلم يتناول رحلة بطل (hero)، للبقاء على قيد الحياة فوق سطح كوكب غابت عنه الحياة.

بعد أن اعتقد رفاق رحلته الفضائية في موته.. اضطروا إلى ترك جثمانه -كما اعتقدوا- ورحلوا عن كوكب المريخ عائدين إلى كوكبهم الأم/ الأرض, فتحتم على البطل خوض رحلة قاسية في ظروف مميتة, لتوفير سبل الحياة, ثم البحث عن طريقة للتواصل مع وكالة الفضاء ناسا، ليخبرهم أولا بأنه على قيد الحياة, وليساعدونه ثانيا في العودة إلى وطنه الأرض.

بطلنا يصنف من أرقى الشرائح الاجتماعية والثقافية, إنه A+ بامتياز, فهو عالم في النباتات, يعمل في أكبر وأهم مؤسسات الأرض –ناسا- إذن فقد تم اختياره على الفرازة, علم وخلق ولياقة بدنية.. لا غبار عليه، للدرجة التي تكفيه لتمثيل كوكبنا على الكواكب الأخرى.

إلى جانب هذا فهو يتسم بالذكاء الفذ, الجرأة, سرعة البديهة ,المرونة في مواجهة العقبات والقدرة على تحليل المشكلات لإيجاد الحل، والقدرة على الحلم، وهذا ما أثبته بطلنا بالفعل.

فبعد محاولات ومحاولات.. إخفاقات ونجاحات.. يتوصل بطلنا إلى طريقة للتواصل مع ناسا، ولتدعيم فكرة الشخصية السوية التي يمتلكها، كانت أول جملة ذكرها لـ ناسا عبر طريقة التواصل التي اخترعها: \”اخترق جسدي الهوائي، فدمّر المؤشر الحيوي في بدلتي، فاعتقد الطاقم أنني قد مُتّ، إنه ليس خطأهم\”.

لم يغضب.. لم يلق باتهاماته إلى رفاقه الذين كان بإمكانهم الانتظار دقيقة واحدة إضافية للتأكد من صحة موته.. لا.. لقد التمس لهم العذر وأراد تبرئتهم أمام مرؤوسيهم وأمام العالم كله، الذي تذاع أمامه رسائله على الهواء مباشرة.

لا أعلم، لمّ تذكرت درس التسامح الذي تعلمناه منذ الصغر عن نبي الله يوسف، الذي سامح إخوته بعد اعتلائه كرسي الحكم.

لكن.. الدراما لا تعرف الأنبياء.. لا وجود لشخصيات بيضاء تماما، أو سوداء بالكامل في الحياة.

ولأن بطلنا بشر، فكان لابد من إلباسه ثوبا بشريا مناسبا لخلفيته، أو لطبيعة شخصيته، أو للظروف التي يمر بها.

ما الذي يمر به بطلنا؟!

إنه الموت.. لا شئ من حوله سوى الموت.

رغم تفاؤله ومحاولاته طيلة الوقت، إلا أن الإخفاقات والعقبات، كانت منذرة بالموت لا محالة.

فما العيب الذي ألصقه المؤلف للبطل, والذي يتناسب مع رحلته إلى الموت؟

الإجابة في سؤال بطلنا التالي لمراسليه في وكالة ناسا:

لقد سألهم: \”كيف حال الطاقم؟ ماذا قالوا حينما اكتشفوا أنني مازلت حيا؟\”

وجاءته الإجابة بعد تردد كبير من مراسله في الوكالة: \”نحن لم نخبر الطاقم أنك على قيد الحياة بعد\”.

ترى ماذا كان رد فعل بطلنا الذي يحمل شيم الأنبياء؟!

تعمد صناع الفيلم إخفاء رده على شاشة الحاسوب التي يراسلهم عبرها.. بل استعرض الإجابة على لسان من يقرأونها، ومن خلال تعبيرات وجوه أعضاء ناسا، وخاصة رئيس الوكالة، وكذلك المسئولة عن العلاقات العامة، والتي من صميم وظيفتها، الحفاظ على بروتوكول الوكالة.. ومنظرها أمام الناس.

وتلك حيلة درامية لتبيان فجاعة الرد وعدم لياقته، وكان الحوار التالي على ألسنتهم:

– \”ماذا يقول؟\”

– \”يقول كلمة قبيحة بحرف(ف)؟\”

– \”كلمة قبيحة بحرف (ف)؟\”

– \”بصيغة الفاعل\”

– \”كلمة قبيحة بحرف(ف)؟!!!!!!\”

\”مارك, من فضلك, انتبه لألفاظك.. كل ما تكتبه يُبَثُّ على الهواء مباشرةً، في كل أنحاء العالم\”

ويرد عليهم مارك/بطلنا، بسباب آخر، ولكن يبدو أنه أعظم قبحا من سابقه.. هذا ما بدا على وجوه الجميع.

فنسمع بعض العبارات مثل:

– \”يا إلهي\”

– \”إنه تحت كمية هائلة من الضغط النفسي\”

– \”أفهم ذلك\”

– \”سنعمل على ذلك\”

– \”أنا متأكد أنه لم يعن ما قال\”

لقد غفر له الجميع فضيحة عالمية تمس أكبر وأهم الوكالات العلمية.. برروا ذلك بوقوعه تحت \”كمية هائلة من الضغط النفسي\”.. أرجو من محرر المقال وضع أكبر عدد ممكن من الخطوط تحت الجملة السابقة.

لن أعدد أسباب الضغط النفسي التي يقع تحت وطأته أبطالنا الصغار، والكبار، فمن لا يعرفها.. لن يعرفها أبدا.

علما بأنني لا اتحدث عن واقعة بعينها.. بل هي ظاهرة انتابت الكثيرين.. الكثيرون جدا.. منذ تكررت مشاهد الموت أمام أعينهم.

أذكر بوست لإحدى صديقاتي \”رحمها الله\”، كتبته منذ خمس سنوات، تقول فيه: \”ماكنتش أتخيل ييجي اليوم اللي أقول فيه \”***\”.. أنا بنت الناس المتربية وخريجة مدارس المير دي ديو\”.. سأترك لكم تخيل اللفظ كما فعل صناع الفيلم.

كانت تلك المرة الأولى التي أنتبه فيها لتلك الظاهرة.. لعلمي برقي وأخلاق صديقتي.

ترى.. ما الفارق بين العالمين؟!

في رأيي الشخصي جدا، أن الفارق بين البطلين.. هو أن مارك لديه من يؤمن بحلمه ويؤيده، بل ويساعده في تحقيقه، فيتغاضى عن تلك الهفوات البشرية التي يصنفها علماء النفس بـ\”الضرورة القصوى\” للتنفيس عن الغضب.

أما أبطالنا.. فلهم الله.. وغفر لهم قباحتهم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top