منذ عدة سنوات، صادفت مصطلح \”underrated\”، أثناء قراءتي لمقال نقدي باللغة الإنجليزية، فسارعت بدوري لمعرفة معنى هذا المصطلح الجديد عليّ، وعرفت أنه يعني: \”العمل الجيد الذي لم يحظ بالتقدير المناسب\”، وعليه فقد عرفت أن المصطلح المقابل له هو \”overrated\”، واسترجعت ذاكرتي بعض الأعمال الـ \”underrated\” في تاريخ الدراما المصرية، فوجدت عددا لا بأس به، كفيلم \”بين السما والأرض\” مثلاً!
في أول محاضرة لدفعتي في أكاديمية الراحل العظيم \”رأفت الميهي\”، بدأ التعارف بيني وبين زملائي الجدد قبل وصول الأساتذة إلى القاعة، فتجاذبنا أطراف الحديث الذي تطرق إلى أحب الأعمال إلى قلوبنا، وتقييمنا لها، وخاصة من حيث السيناريو، بما أننا مقبلون على دراسته، فذكر كل منا أسماء لأعمال عظيمة أشاد بها الجميع -وعلى الأخص من النقاد- ثم -وكعادتي- \”اتسحبت من لساني\”، وذكرت فيلم \”اللي بالي بالك\”، فكان ما كان!
ضحكات مكتومة ونظرات شفقة من الجميع، ولسان حالهم يقول: \”البت دي مش فاهمة حاجة وهتقرفنا\” -ولأنني لا أسكت- سألتهم عن سر نظراتهم، فأجابني أحدهم بأنه لا يصح أن نكون في حضرة الميهي، ثم نقول عن فيلم كهذا إنه من الأفلام المفضلة! وكانت الدنيا مقلوبة وقتها على \”الليمبي\” (فيلمه الأول)، وما يقدمه من إسفاف.. إلخ.
فكتمت غيظي وانتظرت حتى حضر الأستاذ، وبعد التعارف، سألته مباشرة عن رأيه في الفيلم، فقال دون تفكير: \”الفيلم ده بالذات، السيناريو بتاعه مظبوط جداً\”. وهنا انتشيت وانتفخت أوداجي، ونظرت إليهم بنصر، وكان الدرس الأول الذي تعلمناه على يد الأستاذ.. \”ليس من الضروري أن يشيد النقاد أو الجمهور بالعمل، حتى تصدر حكمك عليه.. ليست قاعدة أن تكون الأعمال العظيمة صنعها عظماء لهم تاريخ أو معروف عنهم الجدية.. ليس من الضروري أن يحصد العمل جوائز الدنيا حتى نحكم عليه بالجودة\”.
وهنا قلت، إذن فيلم \”اللي بالي بالك\” ينطبق عليه القول \”underrated\”، فرغم الإقبال الجماهيري الكبير عليه، ولكنه يظل في نظر صناع السينما والجمهور، فيلما خفيفا.. لا يصح الاستشهاد به كعمل فني جيد في أي من عناصره.
وعلى مر السنوات، وجدت أن ليس الأعمال الفنية فقط التي ينطبق عليها هذا المصطلح، وإنما هناك فنانون ومخرجون وكتاب سيناريو.. إلخ.. يمكن وصفهم بأنهم \”underrated\”، وهنا استوقفتني الفكرة.. كيف أحكم على عمل كامل بالفشل، لمجرد أن أحد صناعه لا يحظى لديّ بالاحترام المناسب، أو بالتاريخ، أو بالقبول، أو بالحب الكافي؟! وفي المقابل.. كيف أحكم مسبقا على عمل بالنجاح والعظمة والعبقرية، لمجرد أن أحد أو أغلب صناعه ممن سبق استحسان أعمالهم؟!
لاحظت كذلك أن هناك بعض الأعمال التي لا تحظى بإعجاب الشباب على مواقع السوشيال ميديا، ولكنه يخشى ذكر ذلك، فتجده يلف ويدور مائة لفة قبل أن يذكر جزءاً من رأيه المخالف للمتوقع، أو يسارع بالإشادة بقيمة العمل حتى لا يبدو بمظهر الجاهل! وذلك لطبيعة تلك المواقع في نشر ما يقوله، وما سيرد به عليه المتابعون من اتهامات بالجهل والتخلف.. تماماً عكس ما فعلته عندما أبديت رأيي في فيلم \”اللي بالي بالك\”.
أصارحكم القول، إنني كمشاهدة عادية، لم أكن من متابعي غادة عبد الرازق، ربما لأنني لم أكن متابعة جيدة للمسلسلات قبل دخولي هذا العالم، وشغفي كان دوماً منصبا على عالم السينما، وربما وقعت في فخ الإنطباعات، فلم أشعر بميلي لمتابعة أعمالها، خاصة بعد رأيها الذي أعلنته في بداية قيام الثورة، والذي يعارض رأيي بالتأكيد، ولكنني عندما كتبت فكرة مسلسل \”الكابوس\”، لم أر غيرها في الشخصية، فرغم انطباعي المسبق عنها -كمُشاهدة عادية- فإنه لا ينفي إعجابي وتقديري لقدراتها التمثيلية، وهنا وجب الفصل بين المُشاهد العادي بداخلي وبين كاتبة السيناريو التي تنشد الآداء الأفضل لشخصياتها.
وبالفعل.. لم أتردد في عرض العمل عليها.. منحية جانباً انطباعاتي وأهوائي ومشاعري، بل أخبرتها بذلك صراحة.. غير أني بعد تعاملي معها، احترمت ما بها من حبها لعملها، واكتشفت افتراء وكذب الكثير من الأقاويل التي حاول الكثيرون إخافتي منها قبل العمل معها وأثنائه.. ولا داعي لذكر التفاصيل، فقد ذكرتها في العديد من اللقاءات السابقة، والتي على رأسها عدم تدخلها في النص.
وبعد انقضاء عام على مسلسل \”الكابوس\”، ومن خلال تجربتي الشخصية، أردت أن أكتب اليوم عن تلك التجربة.
ففي قرب نهاية الشهر، ومع إعلان نتائج استفتاءات الجرائد والمواقع الإلكترونية.. استوقفني استفتاء أحد المواقع، وكان غريبا بحق.
اعتمد الموقع على طريقة جديدة في حساب النتيجة، فلم يذكر رأي كل ناقد على حدة، ولكنه أدرج عدداً لا بأس به من المسلسلات التي حظيت بنسب مشاهدة عالية، و\”الكابوس\” كان من ضمنهم بالطبع.. مع إدراج أربعين اسما من نقاد الدراما، على أن يعد كل ناقد قائمة من أسماء المسلسلات التي يفضلها، ثم تحسب النتيجة على أساس نسبة حصول كل مسلسل على تصويت، ومركزه من الترتيب في قائمة كل ناقد.
ولأن أربعين ناقداً يُعد رقماً كبيراً، فاعتقدت أنني حتماً سأرى اسم مسلسلي في مكان ما، ولكن النتيجة كانت \”صفرا\”.. كحكة كبيرة لم أحصل عليها طيلة حياتي الدراسية أو المهنية.. فدهشت! أما من ناقد واحد أو صحفي وضعه في قائمته؟!.. هذا غير معقول!
وليس من المعقول أيضاً أن يكون الأربعين ناقداً مصلحجية! لا أعترف بهذا التعميم وأرفضه.
وفي مساء ذلك اليوم، تصادف أني قابلت المسؤول عن الموقع، وهو المسؤول عن الاستفتاء، وسألته عن سر الأمر، فصارحني القول \”بصراحة مافيش حد من النقاد الأربعين شاف \”الكابوس\”. .إلا ناقدة واحدة بس، وفعلا كتبت اسمه، ولكنه لم يظهر لضآلة نسبته\”!!
– أليس من المفترض أن يشاهد النقاد جميع المسلسلات، التي أدخلتها في الاستفتاء؟!
– \”هو حد فاضي يشوف 40 مسلسل؟!.. ثم إن غادة عبد الرازق لها جمهورها الكبيييير جداً، ومش محتاجة لنا\”!!
– لماذا إذن أدرجت اسم المسلسل، إذا كانوا لم يشاهدونه؟
– \”لأنه من الـtop، ولا يمكن تجاهله\”!
لم ترحني إجابته، ففتحت فمي ولم أنطق، فأجاب -عشان يجيب م الآخر- \”م الآخر.. أنا شخصيا مش بحب غادة!\”
طب وأنا مال أهلي؟!.. وأنا قلتلك اطلب إيدها؟!!!.. احتفظت بهذه الجملة في صدري، وانتهت الليلة على خير، قبل أن أنشب أظافري في رقبته.
ولمن يقول إنه لا أهمية لمثل هذه الاستفتاءات.. لماذا إذن تقرأونها، وتقومون بنشرها على صفحاتكم عندما تكون في صالحكم؟!
بل ربما إذا عرف صناع فيلم \”اللي بالي بالك\” برأي الأستاذ \”رأفت الميهي\” -وقتها- لجاءت أعمالهم التالية بشكل أفضل فنياً.
أعرف ما يدور في خلدك الآن أيها القارئ.. أنت تريد أن تخبرني عما هو معروف عن ندرة النقد البّناء وقلة النقاد المحترمين والحسابات الأخرى.. والمصالح.. و.. و… و…
أعرف كل هذا، فأنا لست بساذجة، ولم يكن أبداً هذا موضوع مقالي اليوم.. أنا اتحدث عن الانطباعات الشخصية والأهواء العاطفية والصورة الراسخة في وجدان البعض عن فنان ما، التي تتدخل -رغماً عنهم- في الاعتراف بقيمته الفنية.
قد يحب الجمهور فناناً، ويشاهد جميع أعماله، ويغفر له أخطاءه المهنية، لمجرد أنه يحبه.. وقد يحدث العكس مع من يرى أن دمه تقيل على قلبه.. هذا حقه، ولكن الناقد؟!!.. إذا كنت ناقداً نزيهاً، ولم تستفد مادياً من هذا أو ذاك، فلماذا تتعامل مع الأمر عاطفياً؟!
مر العام، ثم نسيت كل شئ، واهتممت بعملي وفقط.
ما أثارني اليوم أشبه بالبارحة.
أثارني مقال كتبه أحد النقاد المحترمين، والذي أكن له كل الحب والاحترام على المستوى الشخصي والمهني، وما كتبه كان تأييداً لقناعتي واستثارةً لمخاوفي.
كتب الناقد عن مقارنة بين عملين تشابهت فيهما بعض المشاهد، بل وبعض الشخصيات والخطوط، وأجزم بضرورة سرقة أحدهم من الآخر، لصعوبة توارد الخواطر إلى هذا الحد.
إلى هنا، لم يثِر الأمر قلقي، ولكن ما حدث بعد ذلك هو تحديداً ما استفزني لكتابة هذه الكلمات.
فقد قام بنشر المقال على صفحته الشخصية، وكتب تعليقاً -وكأنه حقيقة لا تقبل الشك- وذكر اسم أحد العملين على أنه سرق من الآخر!
أعرف أن هذا لا يخل بمهنيته، لأن الصفحة الشخصية مجال حر للكتابة عن آرائه، ولهذا أصر على نزاهته واحترامه للفن ولمتابعيه.
ولكن هذا لا ينفي صحة نظريتي عن الإنطباعات المسبقة، ولأنني على يقين من نزاهة وحيادية الناقد.. تساءلت.. من أين جاء الجزم والحسم والتأكيد؟!
كانت الإجابة في السطور السابقة.. إنه الانطباع! صناع هذا العمل معروف عنهم الجدية والاحترام، فمن البديهي أن يكونوا هم المسروقون!
وأنا في حل من نصرة أحدهم على الآخر، وليس هذا ما أريده من كتابتي المقال، ولكنه المبدأ الذي أدركته وتعلمته من أستاذي القدير \”رأفت الميهي\”:
ليس كل ما يقال بجدية.. يستحق الاستماع.
ليس كل بسيط..تافهاً.
ليس كل ابن نكتة ..\”هزؤ\”.
وليس كل من حشر كلاماً \”مجعلص\”.. فيلسوفا.
وليس كل من خالفني الرأي.. مبتذل فنياً.
وليس كل من لبست \”شورت\” تحت بيتها.. تقدم أعمالاً وضيعة.
في نهاية كتابتي للمقال، أشعر ثانية أنني \”اتسحبت من لساني\”، وأثرت حنق البعض علي.
ولهؤلاء أقول: تذكروا إنطباعكم المسبق عني، قبل أن تنقلبوا عليّ بسبب مقال تافه.
افتكروا محبتكم ليا.
الإنطباعات مهمة أوي يا جماعة.