نيرة حامد تكتب: لا تبحث عن العلم في القمامة

كثيرا ما وجدنا على منصات الأخبار المقروءة والمسموعة والمرئية خبرا يتعلق بتظاهر الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للمطالبة بالتعيين فى الحكومة، وبغض النظر عن إيمانى العميق بأن الحاصل على أي من هاتين الدرجتين العلميتين الرفيعتين هو أهم وأرقى من أن يُكهن فى دولاب العمل الحكومى كالملايين من الموظفين الذين أفقدهم نظام العمل هناك أى قدرة على التفكير والإبداع أو حتى العمل، إلا أني لاحظت فى الفترة الأخيرة أن بعض أعضاء مجلس الشعب ونجوم المجتمع فيما يعرف \”بالنخبة والإعلاميين\” يهاجمون حملة الماجستير والدكتوراه ويسفهون من الجهد الذى بذلوه للحصول على هذه الدرجات العلمية، متهمين إياهم بالنقل والسرقة العلمية وعدم الجدوى، وأنهم يمارسون البلطجة على الدولة.

ولما كنت مجرد باحثة احاول من ثلاث سنوات أو أكثر أن أحصل على الماجستير، وكل تلك الإهانات من عديمى المنهج الفكرى السليم تطالنى أنا الأخرى، قررت أن آخذكم معى في جولة فى رحلة الجحيم \”أقصد البحث العلمى فى مصر\” لنرى من هو السارق ومن هو البلطجى.

عزيزى القارىْ إن كنت ستغامر بإكمال دراستك ما بعد الجامعية، فأول ما سيقابلك هو الإجراءات والأوراق والأموال التى عليك أن تقدمها وتدفعها للجامعة فى إطار من التعامل المتعارف عليه من موظفى شئون الطلبة. ثم تخوض سنة أو سنتين فيما يعرف بتمهيدي الماجستير، والذى إن رسبت فى مادة واحدة من المواد، فعليك أن تعيد امتحانات جميع المواد ثانية.

ثم وإن اجتزت ذلك وقررت تسجيل موضوع للبحث العلمى، عليك أولا أن تخوض امتحان \”التويفل\” وتحصل على حد أدنى من الدرجات وتحصل على شهادة أخرى تفيد بمعرفتك باستخدام برامج مايكروسوفت أوفيس.

ثم تختار موضوعا، وهنا تبدأ اللعبة فعليك أن تختار موضوعا لم يكتب أحد عنوانه من قبل، فحتى لو كنت ستتناول الموضوع من زاوية أخرى أو ستخرج بنتائج جديدة، فذلك غير كافٍ لاقناع اللائحة وحماتها من الصناديد، فهذا الموضوع قد كتب من قبل وجفت فيه الأقلام!

أما إن كنت من الكافرين بالتقاليد وتريد طرح موضوع جديد جدا أو تريد تناوله بطريقة ليست هى تلك التقليدية المقدسة، فاستعد لمواجهة الوحش، ولن تنجو بأى حال من الأحوال.

وإذا ما آثرت السلامة واخترت موضوعا تقليديا -أو هكذا بدت لهم- ولم يكتب اسمه فى أي رسالة من قبل، ومررت بالإجراءات الرسمية التى لن اسهب فى ذكرها، ووصلت إلى ما يعرف بالسيمينار متعديا إياه ومتعديا الصراعات الداخلية بين الأساتذة الأجلاء الأكاديميين، والتى تصل فيما بينهم إلى حد السباب وما بعده أحيانا، فأنت قد ربحت اليانصيب! ولكن لا تظن أن الأمر انتهى، بل هذه هى فقط البداية.

وفى مرحلة بدء البحث، إن كنت ستتعامل مع الجهات الحكومية (أي مكتبات الجامعات الحكومية أو دار الكتب والوثائق أو غيرها) فانبذ الإنترنت والتكنولوجيا، وأُخرج الإنسان البدائى من داخلك، فلا يوجد أي معلومة قد تحصل عليها من خلال الإنترنت، وجهز عتاد رحلتك وامتطى جملك وأذهب إليهم وعاني لأيام عدة فقط لاستكمال أوراق للتمكن من البحث فى مكتبات، جل الاهتمام بها وضعها تحت الأرض.

ولتبحث عن كتب ومخطوطات ضائعة أو مسروقة أو أكلتها الفئران والفاعل مجهول!

وإن سألت واصررت، فأنت مهدد ومنبوذ، ولن تجد لنفسك ملجأ سوى مكتبة الجامعة الأمريكية والمراكز البحثية والثقافية الأجنبية.

والجدير بالذكر أنك إن لم يكن لديك عمل حكومى ينتهى الواحدة أو الثانية بعد الظهر، فعليك أن تترك عملك، لأن المكتبات تغلق أبوابها فى الثانية ظهرا، ومن يرفق بحالك يغلقها الرابعة عصرا!

عليك أن تكون ضليعا فى اللغات التى علمت الجامعة أنك ستحتاجها ودرستك إياها –عفوا هذا محض خيال- عليك أن تتعلم الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية أو التركية أو الأمازيغية والأرمنية والروسية حسب مجال تخصصك، أو تقوم بالبحث عن مترجم فى الأغلب يكون غير ملم بمصطلحات تخصصك، فتأخذ ما يشبه ترجمة جوجل!

عليك أيضا أن تكون ملما بالمساحات والرفع المعمارى، وكذلك الرسم والتفريغ، وأشياء أخرى لم تتعلمها قط فى الكلية، تختلف نوعيتها باختلاف مجال بحثك، أو تستعين بآخرين لفعل ذلك لك!

عليك أن توفر الكثير من الأموال، غير تلك التى تدفعها للجامعة، وعليك أن تتحمل ارتفاع الأسعار الدائم لكل شىء يمكن أن تستخدمه.

أما عن مشوار كتابتك للبحث، فأنا أحل نفسى من الحديث عما يحدث حين تبدأ بالكتابة، لاسيما لو خرجت عن المألوف، لأن حدودى تقف هنا الآن.

بالنهاية.. فى بلادى توجد بيئة خصبة من القهر والاحتقار والتعقيد تواجه كل من يحاول ممارسة البحث العلمى، جعلت حتى النقل أو السرقة أمرا صعبا وعصيا.
يا بلادى الحبيبة إن سرقتِ حلمى بالتميز والاختلاف والتعلم، بلوائح عقيمة يطبقها أناس أكثر عقما، وإن حقرتِ جهدى دائما، ووضعتِ أمامى كل العقبات، وإن جعلتنى اندم آلاف المرات على الخوض في ذلك الأمر، وإن اخبرتنى أننى أنا وما درست وما عرفت، مكاننا الطبيعى رف بارد تحت الأرض مغطى بسنين من الأتربة، فلا تنعتينى باللص أو البلطجى، فكل خطأي أني بحثت عن علم فى بلاد أعظم بحث فيها هو البحث عن لقمة عيش في صناديق القمامة!

عزيزى الباحث.. عليك أن تيأس الآن، فمتى تلقيت الدعم هنا
عزيزى الغر المحب للمعرفة؟!

إياك أن تفعلها فى بلادنا، كي لا تكره حتى نفسك.. هناك خلف البحر أناس يمكن ألا يتهمونك بالسرقة والبلطجة.. اذهب إليهم.
وأخيرا.. تحياتى واحتراماتى للسيد الرئيس والسادة المسئولين رعاة العلم والعلماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top