عندما كنا صغار صدقنا أشياء عجيبة وغريبة، نتذكر ذلك فنضحك على كم السذاجة والبراءة الذى كان يغلف حياتنا الصغيرة تلك. فهناك من صدق فى أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة وأسطورة أوضة الفيران الضلمة والتى تعد الأكثر رعبا لكثير من أطفال جيلى. كما صدق بعضنا أن القمر يسطع فى السماء عندما تذهب الشمس لتنام والعكس، وغيرها من الأشياء التى تسمح مخيلة الأطفال باستساغتها.
أما أنا فمذ كنت صغيرة صدقت أمرا مختلفا، صدقت سعاد حسنى.. صدقتها تصديقا حقيقيا فطريا كتصديق ملايين من أطفال العالم بوجود سانتا كلوز، صدقتها عندما غنت بكل فخر وحماس للبنات قائلة: (البنت زى الولد مهيش كمالة عدد)، وكذلك صدقتها وهى تقول: (البنات البنات ألطف الكائنات)، وساعدنى على تصديق هذا نشأتي فى أسرة عاملتنى حقا على أنى ألطف الكائنات. ولكن الكثير من الأشياء كانت تقف مستهزئة بى وبمعتقدى الصغير هذا.. بدأت بأن البنات لا يلعبن فى حصة الألعاب فعليهن أن يكتفين بمساحة صغيرة من حوش المدرسة يفعلن فيها أي شىء أو يثرثرن، حتى يصبح الحوش كافيا ليلعب الأولاد كرة القدم، وأن يأخذن حصص التدبير المنزلى، بينما الأولاد يأخذون حصصا فى المجال الصناعى أو الزراعة أو أي كان، ولا يمكن أن تجد ولدا هنا أو بنتا هناك.
قديما، كنت أخوض صراعا قويا مع أحد زملائى فى الصف، كنا -وقتها- أطفالا فى السادسة أو أقل عندما كان يصعد بعد الفسحة إلى الفصل مغنيا: (البنات البنات صراصير البلاعات) وظل ذلك الصراع بيننا إلى أن غادر المدرسة لمدرسة أخرى، ولم أكن أعلم وقتها أن ذلك الصراع هو صراع مع المجتمع بأسره، فكان من المذهل لى أن أكتشف فيما بعد أن السواد الأعظم من المجتمع يعاملنا على أننا حقا صراصير البلاعات! إننا بالنسبة لهم تلك الحشرة الصغيرة المقرفة والتى يجب الحد منها وملاحقتها بالمبيدات والشباشب إذا لزم الأمر!
فمنذ الولادة وحتى الوفاة تعامل البنت على أنها حشرة، فإذا كان المولود ولدا (أتشد ظهرها واتسند) -أى الأم- وإذا كانت المولود بنية (وقعت الحيطة عليا).
البنت قد تأخذ اسم ولد، لأن الداية قد تغش فى إخبار الأب عن نوع المولود، إما رغبة فى أموال أكثر أو خوفا من أن لا تأخذ شيئا بالمرة! البنت قد تترك لأيام يرفض أهلها النظر فى وجهها ويأبون حتى أن يعطوها أول وأبسط حقوقها فى الحياة بأن تحمل اسما، وكأنهم ينتظرون الموت أن يأتى ويخلصهم من هذا البلاء المبين.
البنت أقل من أخيها فى التعليم والصحة والاهتمام فى الملابس الجديدة وفى بعض الأماكن فى مقدار ما تحصل عليه من الطعام، والأهم من كل ذلك فى الحب الذى قد لا تتلاقاه، فأخوها قد أخذ نصيبها من هذا أيضا! وعندما يكبر سيأخذ نصيبها فى الميراث كذلك، فقد علموه أن تلك الحشرة لا حقوق لها.
الولد دائما مصدر فخر أيا كان فعله، والبنت دائما مصدر خزي أيا كان فعلها.
البنت هى التى تساق صغيرة إلى من يقطع أجزاءا من جسمها لأن جسدها هذا عار على العائلة، هى التى تعامل بتلك الشيئية الوضيعة فى بداية إدراكها للكون، هى تلك المملوكة فى زمن اختفى منه المماليك، فتنتقل من ملكية أبيها وأخيها أو أيا كان الشخص الوصى أو المسئول، إلى ملكية زوجها. هى دائما الولية والتى يلعنها كل ولى يتولاها. وبذلك قامت العادات والتقاليد بدورها فى إثبات أن البنت مش زى الولد.
البنت هى التى تشعر بالخوف فى كل خطوة تمشيها فى الشارع، وتحسب ألف حساب قبل ركوبها اتوبيس أو ميكروباص، وتفكر فى الأدوات التى يجب أن تحملها دائما معها لتحمى نفسها من العدو المتربص بها فى كل مكان. هى التى ترتعب من جسدها، فهى بالنسبة للجميع مجرد جسد بلا روح أو عقل.. جسد يطمع فيه الجميع، كل بفلسفته.. هى المحترمة بزيها أو المنفلتة بزيها أيضا، وليس للأخلاق أي علاقة بذلك! هى التى يجبلوها على النفاق فى الوقت الذى كان يجب أن يعلموها فيه الصدق. وبذلك قام المجتمع هو الآخر بدوره فى إثبات أن البنت مش زى الولد.
وأخيرا.. لم تنس الدولة حقها فى التأكيد على الأمر ذاته، فأعطت للزوج الحق فى أن يمنع زوجته من السفر، ولم تفعل المثل بالنسبة للزوجة. كما يعطى القانون الحق للقاضى فى قضايا القتل بدافع الشك فى سلوك المرأة فى أن يخفف العقوبة لدرجتين أقل، في حين أن أصل الجناية سبق إصرار تصل مع التخفيف إلى جنحة، وهي أقل درجات العقوبة. فحتى القانون يصرخ فينا قائلا: البنت مش زى الولد.
بداية من الأفلام العربى القديمة مرورا بالجديدة وبالدراما وغيرها من الفنون المرئية، دائما نسمع أن شرف البنت مثل عود الكبريت، وكان لدى سؤال محير: إذا.. ما هو شرف الرجل؟!
ووصلت للإجابة بعد عقود، وكانت قوية ومذهلة بالنسبة لى، قالها عبد الرحمن الشرقاوي فى رائعته \”الحسين ثائرا\”: (شرف الرجل هو الكلمة).. وقفت متأملة ومندهشة ومتساءلة: ترى لو كان المجتمع يحاسب الرجل على شرفه بنفس القسوة والحدة التى يحاسب بها المرأة، فما كان مصير غالبية الرجال فى المجتمع؟
اكتشفت وقتها أننا نعيش وسط أغلبية من الذكور بلا شرف، فقط يتحولون لحيوانات برية عندما يأتى الكلام على شرف المرأة، ودائما أود أن أسألهم: وماذا فعلت أنت بشرفك يا غنضفر؟
عزيزتى سعاد حسني: مررت بالكثير ورأيت الكثير وسمعت عن الكثير، وكل هذا الكثير أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنك خدعتنى أكبر خدعة فى حياتى.. عزيزتى سعاد: من المؤلم أن أقول ذلك، فما أصعب أن تخنق معتقد الطفولة بيدك، ولكن \”البنت مش زى الولد\” أبدا.. لم تكن ولن تكون! فالولد يولد وكل شىء فى الكون هو حق مكتسب له، أما البنت فتولد وكل حقوقها مسلوبة، عليها أن تحارب محاربة الإنسان البدائى للوحوش الضارية لتحاول استخلاص حق واحد من حقوقها، حتى ولو كان فقط حق الحياة.
عندما أجلس مع صديقاتى لنتذكر ما كنا نعتقده ونصدقه، سأضحك كثيرا على سذاجتى، وأبكى كثيرا على حالنا.