نوارة نجم تكتب شهادتها من قلب المعمعة: والله على ما اقول شهيد

تم نشر الشهادة في جريدة التحرير بتاريخ 11 أكتوبر 2011 وتقدمت الكاتبة بالمقال إلى لجنة تقصي الحقائق.

نعم، ما حدث عند ماسبيرو هو مجزرة بكل المقاييس.. اكتب وقد عدت لتوي من المستشفى القبطي بعد دخولي إلى المشرحة، ورؤية جثث عرسان السماء، مسجين على الأرض، وأقسم بالله إن على وجوههم ابتسامة، وكأنهم نائمون. حتى الآن ما علمته أن الشهداء تجاوزوا 35 شهيدا قابلين للزيادة.

وصلت إلى ماسبيرو في تمام الساعة السادسة والنصف، رأيت الدماء تملأ أرض الشارع، والنساء تصرخ، والشباب يحملون -أمواتا أو أحياء على شفا الموت- في سيارات الإسعاف، وفوارغ الرصاص الحي على الأرض، وفي يد بعض المتظاهرين الصارخين: ده الجيش اللي بيحمينا؟ تقدمت حتى وصلت إلى أول الصفوف في شارع ساحل الغلال، ثم وجدت حركة غريبة باتجاه الكورنيش، فعدت أدراجي لأجد بعض المصابين ينقلون إلى داخل فندق \”رمسيس هيلتون\”، وتنقل بعض الجثث إلى سيارة الإسعاف، ثم توجهت نحو شارع الكورنيش لأجد سيلا مهولا من القنابل المسيلة للدموع، ظللنا ما بين الكر والفر مع قوات الأمن والجيش حتى ظهرت فجأة مجموعة من \”المواطنين الشرفاء\” الذين طاردونا إلى شارع رمسيس، سرنا حتى وصلنا إلى ميدان عبد المنعم رياض فوجدنا بعضا من \”المواطنين الشرفاء\” يلقون بالحجارة على المتظاهرين الذين تفرقوا، بينما المتظاهرون يحاولون إقناعهم بأنهم لم يضربوا الجيش، ثم فجأة، هتف المواطنون الشرفاء: مسلم ومسيحي إيد واحدة، وانضموا إلى التظاهرة وسرنا جميعا إلى ماسبيرو مرة أخرى، هناك تفرق المتظاهرون ما بين هاتفين: \”مسلم ومسيحي إيد واحدة\”، وما بين هاتفين: \”إسلامية إسلامية\”، أما قوات الأمن والجيش فكانت تختفي خلف صفوف \”المواطنين الشرفاء\” الذين لاحظ جميعنا مزاجيتهم وتقلباتهم الانفعالية: \”إحنا مش جايين نضربكم، حنضرب إخوتنا؟ إحنا جايين نحمي الجيش.. أصل فيه تلاتة من الجيش ماتوا، التليفزيون بيقول كده\”.

يشهد الله أنني رأيت في ذلك اليوم أكبر عدد من الجثث في حياتى، أعداد تفوق أعداد الجثث التي رأيتها في يوم 28 يناير، إلا أنني لم أر جثة عسكري واحد، ولم يكن هناك مسلحون بين المدنيين، لا من المتظاهرين، ولا من \”المواطنين الشرفاء\” الذين اقترب أحدهم مني قائلا: هم فين بقى المسيحيين اللي معاهم سلاح؟ أنا نزلت أحمي الجيش عشان قالوا المسيحيين بيضربوا الجيش بالنار، نزلت لقيت الجيش بيضرب في الكل، والمسلمين بيضربوا في بعض، والمسيحيين بيضربوا في بعض، وماحدش عارف حاجة.. فيه إيه بقى؟

وأشهد الله على ما أقول: لم يكن هناك مسلحون سوى الجيش والشرطة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقتل أي شخص سوى برصاصهم، كما أنني لم أر قناصة، وإن كان الجيش يدعي أنه اعتقل قناصة أطلقوا النار عليه، فليس لدي ما أقوله سوى إجابة المشير التاريخية: هذا احتمال وارد.. لكنني لم أرهم، على الرغم من وجودي في قلب المعمعة. قلت للمواطن الشريف الذي جاء يحمي الجيش: تحميه من إيه؟ المدرعات داست على الناس، وضربوا رصاص حي والفوارغ موجودة، وبعدين إنت بتدفع لهم مرتبات عشان أنت اللي تنزل تحميهم ولّا المفروض هما اللي يحموك؟ فصمت الرجل وبدت عليه البرجلة.

فوجئنا بمسيرة من المواطنين الشرفاء قادمة من كوبري أكتوبر بجوار \”رمسيس هيلتون\”، وهم يهتفون: \”إسلامية إسلامية\”، و\”ارفع راسك فوق إنت مسلم\”، يسير خلفهم تشكيل من قوات الأمن المركزى، ويليهم تشكيل من الجيش. أقبل عليهم بعض الشباب، فأمسك أحد عساكر الأمن المركزي بيد شاب ونظر في يده فوجد صليبا فألقاه نحو المواطنين الشرفاء قائلا: مسيحى.. جره المواطنون الشرفاء حتى وصلوا به إلى أول شارع ساحل الغلال وأوسعوه ضربا، فدخلت أنا وإحدى صديقاتي لنذود عنه، وصرخت صديقتى: \”هل هذه وصية الرسول في أخوالكم؟\”. فلكمها أحد المواطنين الشرفاء في عينها.. تطوع بعض المواطنين الشرفاء الذين صدموا حين لم يجدوا المسيحيين المسلحين الذين حدثهم عنهم التليفزيون، لتخليص المسيحي من أيدي أولئك الذين كادوا يفتكون به.

اختلط الحابل بالنابل، فما عدنا نعرف من هم المواطنون الشرفاء، وأين نجد المندسين من أمثالنا.. سرنا نحو التحرير لنجد تشكيلات عسكرية متفرقة، كل تشكيل يسير ومعه شيخ يرتدي جلبابا قصيرا، حتى وصلنا إلى الميدان فوجدنا اختلاطا آخر بين المواطنين الشرفاء والمندسين من أمثالنا، حتى سرت أسأل الناس: حضرتك شرفاء ولا مندس زيى؟ ثم فوجئنا بتشكيلات للجيش تطلق الرصاص في الهواء لتفرغ الصينية بالميدان، ثم اتصل بي أحد الأصدقاء ليخبرني أن المستشفى القبطي يعاني من نقص في الدم، فاستقليت التاكسي متوجهة إلى مكان سيارتي لأذهب إلى المستشفى القبطى. وحين سلك التاكسي الطريق فوجئ بمسيرة من المواطنين الشرفاء مسلحة بالهراوات والمولوتوف، فاضطرت صديقتي أن تخرج رأسها من النافذة حتى يرى الشرفاء أنها ترتدي الحجاب، وليست مسيحية!

في طريقي إلى المستشفى القبطي، وجدت رجلا ملتحيا، يرتدي جلبابا قصيرا ويشير إلى الناس ليغيروا طريقهم. سألته عن السبب فأجاب: \”النصاري بيضربوا نار علي المسلمين!\”. سلكت طريقا آخر، وسألت مواطنا آخر فأجاب: \”الناس محاصرة المسيحيين جوه المستشفى\”.. أومال إيه النصاري بيضربوا نار دى؟ \”كذاب\”.. الشيخ التقي الورع الملتحي المتبع لسنة النبي في مظهره فقط.. كذاب، وشاهد زور، فحين وصلت إلى المستشفى القبطي لم أجد \”نصارى\” يطلقون أي نيران، وإنما كانوا يحتمون بالمستشفى، بينما يحاصرهم \”المواطنون الشرفاء\” ويلقون عليهم الحجارة.

ذهبت إلى المستشفى القبطي ولم أجد هناك إمكانا للتبرع بالدم، فاتصلت بمعارفي ليرسلوا إلينا بأكياس الدم. دخلت المشرحة، وشاهدت جثث الشهداء، وتأملت في وجوههم الناصعة الباسمة (والله العظيم كانت باسمة) ووجدت منهم من خرج مخه من رأسه على أثر دهس المدرعة له، ثم خرجت لأجد أمهات يبكين أبناءهن. وأخيرا، جاءت مدرعات الجيش وهي تقول: جئنا لنحميكم، وعلى رأس كل مدرعة رجل مدني ملتحٍ ويحمل مصحفا!

لم يكن بين المتظاهرين أي مسلحين، لم أر جثة عسكري، لم يطلق أحد الرصاص على الجيش، وإنما أطلقت قوات الجيش والأمن الرصاص والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين، بالطبع كان هناك من ألقى بالحجارة على قوات الجيش والأمن حين أطلقوا الرصاص على الناس، حيشنقونا ونسكت لهم يعني؟ كان من بين \”المواطنين الشرفاء\” من يعملون لصالح الداخلية ووجوههم معروفة منذ حادثة العباسية، وبعضهم كان بريئا وصدق الإعلام، وحين صدموا بالحقيقة انضموا إلى المتظاهرين.

والله على ما اقول شهيد.. الله يعلم صدقي، فأنا لا أورط نفسي في يمين غموس، ولم أعتد الإتيان بشهادة الزور أمام المحاكم.

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top