نوارة نجم تكتب: القمع إرادة شعب

المعيار الرئيسي الذي نحكم به على الشخص \”المتربي\” في مجتمعاتنا العربية بشكل عام، وفي مجتمعنا المصري بشكل خاص، هو مدى خضوعه للقمع، أو مدى استجابته للقهر، أما العيل \”قليل الأدب\”، فهو ذاك الشخص الذي يرفض أن يذله آخر يكون أكبر منه سنا، أو أرفع منه منصبا، أو أقوى منه اجتماعيا.

كثيرا ما تسمع عبارة \”ما يصحش تتعامل مع أبوك/ أمك/ مدرسك/ مديرك/ حماك/ جوزك (للمرأة) بندية كده والكلمة قصادها كلمة\”. ثم ينبري الناصح موضحا: \”أنا كان عندي خمسين سنة ومتجوز ومخلف وأبويا يسفخني بالكف قدام الناس من غير ما أعرف ليه، ما كنتش أفتح بقي.. أبويا وأنا صغير كان بيضربني بالحزام.. وعشان كده طلعت كده… أنا أبوس إيد أبويا اللي كانت بتضربني بالحزام إنه طلعني كده\”.. وأنت الحقيقة لا تعلم ما هي \”كده\” التي طلعها المتحدث نتيجة لإذلاله بالحزام والصفعات أمام الناس، هو شخص غير مهم بالمرة، ولم يضف للإنسانية شيئا البتة.

الغريب، إنك تجده فخورا جدا بأنه تعرض للإهانة والمذلة في طفولته، بل ويرغب في تطبيق آليات القمع على الأجيال الجديدة، ويندهش من \”قلة أدبهم\”، التي تدفعهم لعدم قبول الإهانة.

اذكر في ذات مرة، كنت أنا ووالدتي جلوسا في إحدى العيادات، وإذا بأم لطيفة، تنزل بكفها على خد صغيرها الذي لم يتجاوز الخامسة، بدا الفزع على أمي وصرخت بشكل تلقائي قائلة: إيه ده؟ إيه ده؟

أجابتها الأم بتأفف وفتور: إيه؟ حصل إيه؟

فقالت لها أمي: حصل عنف.. قدامنا.

فقالت الأم، وهي تتنقل بيني وبين أمي بازدراء: باربي ابني.

وهكذا ضربت تلك الأم المصرية الأصيلة عرض الحائط بكل نظريات التربية التي تتحدث عن القدوة والمصادقة والمثل الأعلى، ولخصت التربية في صفعة على وجه طفل أمام جمع من الناس.

قد يبدو ما أقول غريبا على الذوق المصري بشكل عام: وفيها إيه لما الأب يضرب ابنه أو الأم تضرب ابنها؟

وهناك تعبير آخر مثير للشفقة والغيظ معا: \”بيرد عليّ\”! وهذه في حد ذاتها جريمة كافية لتعذيب الطفل الصغير، إن الأب أو الأم حين يصرخون في الطفل، فإنه، بمنتهى العفوية والبراءة \”يرد عليهما\”، والواقع أن التعبير ليس له تتمة من قبيل: بيرد عليّ بأسلوب مش كويس.. بيرد علي ردود قليلة أدب.. لا، التعبير هو هكذا \”بيرد عليّ\”، وهنا عزيزي المواطن يبدأ مشوار تكميم الأفواه منذ نعومة أظافرنا.

أنت غير مسموح لك بالرد على من هم أكبر منك سنا، سواء أب، أو أم، أو مدرس، أو ناظر، أو جد… إلخ، لا أحد يطلب منك تحسين أسلوبك في الحديث، هم يطلبون منك أن تصمت تماما، على الأكبر منك أن يوسعك صراخا، وسبابا، واتهاما، وعليك، كطفل مهذب، مؤدب، \”متربي\”، أن تقمع كل ما يختلج صدرك من دفاع عن نفسك، وألا ترد بأي شيء، ثم تنتظر \”لحد ما بابا يهدا وتروح تقول له أنا آسف.. حتى وأنت مش حاسس إنك غلطان، لإنك أكيد غلطان، لو مش عارف أنت غلطان في إيه؟ بابا عارف، وهو عارف مصلحتك\”.

عفوا.. إسفخص على دي تربية الحقيقة.. هذه تربية لا تخلق سوى حمارا ببردعة، يعشق التذلل، ويستسيغ التزلف، ويعتبر الخضوع أفضل صفاته. والغباء والامتناع عن التفكير، والتسليم بإرادة الأقوى ووجهة نظره دون مناقشتها، هي قمة الأخلاق والأدب. كما إننا نربي أبناءنا على كراهية \”البجاحة\”.. عيب، عايز تعمل حاجة اعملها في السر.. إنما عيانا بيانا كده؟ دي اسمها بجاحة.

كي لا نظلم الآباء والأمهات، فإنهم تربوا بنفس الطريقة، ولا يعرفون طريقة أخرى للتربية، كما إن جلنا يعلم المثل المصري الشهير \”لو شاف الجمل سنمه، كان وطى عليه قطمه\”، بقول آخر، قليل من الآباء والأمهات من يرى في نفسه التشوهات التي نتجت عن طريقة تربيته الخاطئة، ومن ثم يحاول أن يصلح ما يمكن إصلاحه أثناء تربيته لأطفاله.

الجميع يرى نفسه \”زي الفل\”، و\”إحنا اتضربنا بالحزام عشان كده طلعنا كده…\”، بل إنه يرى في الأجيال الجديدة \”دلع ماسخ\” أخرج شبابا قليل الحياء، يجاهر بقلة الأدب، ويتطاول على الأكبر والأهم والأقوى.

لذا، فإن أغلب \”المتربيين\” في مصر، يرون أن الثورة قلة أدب، وأن خلع رئيس فاسد قاتل سارق، وهو رجل كبير في السن، قلة حياء وقلة أصل، \”اعتبره أبوك يا أخي\”، وأن التطاول على الشرطة التي تعذب وتقتل من التعذيب، خيانة للوطن، \”احنا اتضربنا بالحزام وعشان كده طلعنا كده\”، وأن معارضة السلطة يساوي \”الرد على الأب والأم والمدرس\”، وأنت مش مفروض ترد أساسا، لا بخير ولا بشر.. أنت تصمت.

ماذا نتج عن هذه التربية القمعية المشوهة؟

نتج عنها ما لخصه حسن حسني في أحد مشاهد فيلم \”فرحان ملازم آدم\” من إخراج عمر عبد العزيز، حيث قال حسن حسني في أحد المشاهد: مدام ماحدش شايفك، اعمل اللي أنت عايزه، اتكشفت.. بجّح.. ما نفعتش البجاحة.. طاطي.

كما نتج عن هذا النموذج التربوي المريض، أن تحول الناس جميعهم إلى ظالم ومظلوم، كلما قدر شخص على من هو أضعف منه، مارس عليه القمع الذي تربى عليه، وكلما خضع هو ذاته نفس الشخص لمن هو أقوى منه، مورس عليه الظلم والقهر.. وحاجة بقت تقرف.

ومع كل هذا الظلم، وعدم التورع في التنكيل بمن هو أضعف، فقط لإنه أضعف، يتحدث هؤلاء الظلمة/ المظلومين، عن \”قلة الأدب\”، ويلخصون الأدب في \”حضرتك.. وسيادتك.. ويا فندم..\”، وكل أشكال \”أدب القرود\” والذي يشتمل على عدم التفوه بألفاظ نابية علانية، مع الاحتفاظ بحق التفوه بكل هذه الألفاظ في المشاجرات. ويلخصون الشرف في \”فرج المرأة\” حرفيا دون أدنى مبالغة، ولا شرف في هذا الوطن سوى في هذا المكان الضيق. ويلخصون الاحترام في ارتداء ملابس مهندمة. ويلخصون الأخلاقيات في عدم إغلاق سماعة الهاتف في وجه المتحدث على الطرف الآخر.

لا أظن أن الأمر يحتاج لثورة على السلطة فقط لإصلاح الأمور، بقدر ما يحتاج لثورة على المفاهيم والأعراف والعادات والعقلية المصرية التي تدير المجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top