أن يقتل ما يقرب من ثلاثين مواطنا في وضح النهار، دون أي مبرر أو مسوغ.. لم يكونوا تحت القصف.. لم يذهبوا لتحرير فلسطين.. لم يقفزوا في البحر هربا من البطالة والفقر.. لم يأتوا بأي فعل يشي بأنهم لا يرغبون في الحياة، على العكس تماما، كانوا يقومون بفعل لا يقوم به إلا كل من يحب الحياة: كانوا يرغبون في مشاهدة مباراة كرة قدم للتشجيع والاستمتاع.
في مكان آخر غير هذه الأرض التي أصبحت يبابا، في زمن آخر غير هذا الزمن الجائر، مع أناس آخرين غير أولئك المتحولون، كان رد الفعل الطبيعي لحادث كهذا: لا إله إلا الله.. الله يرحمهم.. إيه سبب وفاة العدد ده كله؟ وفين الشرطة؟ ما أمنتش المكان ليه عشان الناس ما تموتش؟
لكننا في أرض العجائب، جرت على الناس خطوب وأحداث، حولتهم إلى زومبي، وقد يكون تتابع الموت والدم عليهم قد غير في كيمياء المخ لديهم، فطفقوا يقولون جملا أقرب إلى هذيان مختل هارب من مصحة للأمراض العقلية، وهنا يحضرني توصيف وزارة الداخلية لأي مرتكب لجريمة قبل الثورة: مختل عقليا، حتى قلنا: هي البلد كلها مختلين عقليا؟ فإذا بالأيام تثبت صدق الداخلية وكذب حسن ظننا.
لدي رغبة شديدة في عرض الجملة الآتية على طبيب أمراض نفسية وعصبية ليحلل هذا الهذيان:
ماتوا؟ ما هم اللي عايزين يخشوا الماتش من غير تذكرة.
ماتوا؟ يبقى الإخوان اندسوا وسطهم عشان يعملوا شغب.
ماتوا؟ يبقى الإخوان لبسوا شرطة عشان يقتلوا المشجعين.
ماتوا؟ كده برضه بتحملوا الداخلية المسئولية وهي بيموت منها ناس كل يوم في أحداث الإرهاب؟
ماتوا؟ الأولتراس دول بلطجية أساسا.
ماتوا؟ طب ما توقفوش الدوري عشان سمعة مصر.
ماتوا؟ طب للعلم بقى عمر جابر ما لعبش الماتش عشان عنده حساسية في صدره مش عشان اللي ماتوا.
ماتوا؟ ما هم عايزين يكسروا هيبة الدولة.
ماتوا؟ إفضلوا نوحوا عليهم.. أمال يعني ما جنودنا بيموتوا في سينا.
ماتوا؟ دي مؤامرة عشان بوتين جاي بكرا.
ماتوا؟ دول ماتوا بسبب التدافع أصلا.
أبحث عن عبارة: الله يرحمهم. فلا أجد.
قالت وزارة الداخلية إن الجمهور كان يريد أن يدخل المباراة بدون تذكرة، وإن الداخلية اضطرت للتعامل معهم لحماية منشئات الاستاد.
هكذا تصبح التذكرة والمنشأة أثمن من أرواح الناس، ولا يهم أن تقول كلاما متناقضا، مثل أن تتهم الجمهور بأنه تابع لحركة حازمون، وإن الإخوان ارتدوا ملابس الداخلية، وبأنهم يستحقون الموت لأنهم يريدون دخول المباراة بدون تذاكر، وفي ذات الوقت تقول بإن الشرطة لم تضربهم، لكنهم ماتوا بسبب التدافع.. لا يهم، المهم أن تصل إلى قمة الانحطاط الإنساني.
أنت لا تعلم ما تقول، لكنك تبحث في قاموس اللغة والتبريرات عن أكثر العبارات التي تجعلك تبدو منحطا، السبب مجهول بالنسبة لي، لماذا تريد أن تبدو منحطا؟ لماذا تريد إقناع نفسك ومن حولك بأنك شخص دنيء وضيع؟ لا أعلم الحقيقة، لكنك تبذل جهدا مشكورا لتحقق ذلك، ولكل مجتهد نصيب، وقد كلل الله مجهوداتك بالنجاح: أنت حقا منحط.
الإنسان لا يستحق القتل لأنه رغب في دخول مكان متسللا بدون إذن أو تذكرة، وجماعة حازمون لن تضحي بأرواح أعضائها لمجرد إحراج الداخلية، ولو إن الإخوان تمكنوا من ارتداء ملابس الشرطة المصرية، فهذه خيبة تضاف إلى خيبات الشرطة المصرية المتوالية والتي لا تعد ولا تحصى، ولم أفهم ما العلاقة بين موت عناصر الداخلية بقنابل الإرهاب وبين قتلها للمشجعين، سواء بالقصد أو بالإهمال، اللهم إلا إذا فهمتها في إطار الرجل الذي يهان في عمله فيعود إلى بيته ليضرب زوجته وأولاده، وسمعة مصر تتلوث بقتل العشرات والتغاضي عن القاتل والمهم، لا بإلغاء الدوري.
وما قضية عمر جابر الهامشية هذه التي تم إثارتها؟ وهيبة الدولة تكسر حين تكسر المواطن وتضطره إلى مواجهتها، وقد حضر بوتين وأكل وشرب وشاهد الباليه على دماء أبنائنا دون أن يؤثر ما حدث على مجيئه أو استقبال السيسي له، وكيف تكون مؤامرة من الأخوان وفي ذات الوقت ماتوا بسبب التدافع؟ هل تخفى أعضاء الجماعة على شكل تدافع؟
رحم الله الشهداء… ليس هناك أي نصيحة يمكن أن أقدمها للإنسان في هذه الأرض اليباب سوى: لا تسير في تظاهرة، لا تحضر مباراة، لا تدخل سينما، لا تسير في الشارع، ويستحسن ألا تجلس في المنزل.. عشان ما ترجعش بقى تشتكي وتحمل كل حاجة للداخلية.