\”لم أعزف على قيثارتي لأنني كنت مشغول بالدفاع عنها\”.. مقولة الكاتب والشاعر الكبير عبد الرحمن الخميسي، والتي لطالما بقي صداها في ذهني منذ قرأتها، لفرادة التعبير وكثافته ونفاذه، ولعمق دلالته وألمه على رقته.
ربما هذا هو الحال الذي بات عليه كل –أو لنقل أكثر- فناني ومبدعي مصر اليوم، ومنذ عقود، لكن الأمر الآن آل إلى الأعمق سوءًا.
سيكون من العبث التحدث إلى أناس لا يعنيهم أمر الإبداع من قريب أو بعيد، أو ربما يعنيهم بالضد مما يعنينا، فيجدونه شرًا يستحق المحاربة لذاته، وإذا نجا بعضهم من ذلك التصور فقليل منهم من سيدرك ماهية هكذا طاقة، ومتطلباتها وأثرها ومردودها على مجتمع عطشٍ لتنسم الحياة بعدما ضاقت عليه الأرض بأزماتها على كل المستويات.. هنا حيث يعوض الفن –حتى الأكثر بساطة منه- ما أغلقت دونه أبواب مؤسساته العلمية والتعليمية، واختنقت دونه مواردهم ومعيشتهم اليومية، وما أضيقها معيشة لولا فسحة الفن والإبداع.
الأمر لا يتعلق بقضية محددة ولا بكاتب أو فنان بعينه، ولا بقيمة ما يقدمه هذا أو ذاك، فالقيمة في هذا لا تصلح معيارًا لأنه أمر لا يجوز قياسه ولا يصلح أحد – أيًا من يكون – حكمًا فيه، لأن الاختلاف حول قيمة الأعمال الإبداعية وحول قيمة المبدعين –حتى المعدودين كبارًا- هو القاعدة وهو الطبيعي جدًا في شأن تحكمه الذائقه ويتبدل ويتجدد في كل يوم ومع كل مدخل جديد، ونفس الأمر حين نتحدث عن قيمة أخلاقية، فلازال الأمر نسبيًا تمامًا ولا يمكن ضمان العدالة والموضوعية فيه؛ ولهذا بالتحديد فإن نزع كل قيد يصير حتميًا وتكون كل محاولة لانتقاص الحرية، أو القص من الأفق أمام المحاولين في مجالات الفن والفكر والإبداع المختلفة، بمثابة سلب تام للطاقة الإبداعية ككل من المجتمع.
فالحرية عادلة تمامًا؛ إن ضمنتها لغيرك كانت لك، وإن سلبتها منه انسلخت عنك.
ولكن حتى من زاوية أخرى، حيث تطل العين التي لا تترقب إلا التزام الصفوف لإحكام القيد، فإن المعادلة خاسرة بكل المقاييس.
ففي مجتمع لا يبصر إلا اتجاهًا واحدًا لابد أن تتعطل البوصلة ويتوه أفراده في مرحلة ما، طالت الرحلة أو قصرت، وهذا ما تحاول جهات ما إحداثه بإصرار ودأب وعمى طوال الوقت، ظنًا بأنها بذلك تملك قياده وتأمن نفوره وتسربه من بين أيديها أو تمرده على اليد التي تمسك بالوثاق؛ لكن ما فاتها هو أن هذا النهج هو ما يمهد لتحول أفراده بعضهم تلو الآخر إلى يد أشد غلظة وعين أكثر عمى تقودهم إلى ظلام أبقى.
وهذا بالتحديد هو ما أفرز في مجتمعاتنا البشر الأكثر ميلًا إلى الانضمام لجماعات
التطرف والأفق المحدود والقواعد المريحة لعقولٍ ارتخت.
فحين تغمي العيون وتربط الأعناق بوثاق فأنت لن تضمن انقيادها لك وحدك، بل إنها ستتبع كل من يمسك بطرف الحبل في أي لحظة، مادامت عجزت عن الرؤية وسُلبت الاختيار.
القضية ليست حقًا للمبدعين –فقط- وإنما هو في المقام الأول حق للمجتمع الذي فارقه العالم بأحقاب زمنية وهو لا يزال في صراعاته البدائية التي تتهجى أحرف الحرية.
المجتمع الذي تاق للموسيقى، وتتزاحم عليه أصوات الصراخ والوعيد والنداءات النشاز، في حين انشغل مبدعوه دائمًا عن العزف بالدفاع والذود عن قيثارتهم.