لم أكن وحدي في معيتها حينما أطلقَتْ سؤالها للحاضرين بمزيج من
الاعتيادية والفضول الطفولي المحبب.. سألتنا صديقتنا – الصماء – ما هي الموسيقى؟ طلبت منا أن نَصِفها لها لكي تحاول تخيلها.
لم أكن وحدي، لكني شعرت فجأة كأنني وحيدة تماما.. بمجرد أن ألقت علينا تساؤلها، نزل على الجميع صمت ثقيل، للحظات اجتمع علينا شعور بالحرج والحيرة معا.
أيقظت نفسي سريعا من عجْزِها، وأردت أن أكسر حالة الحرج هذه.. حاولت استدعاء شعوري بالموسيقى دون السماع، كأنما أتذكر أثرا بعيدا.. استحضرت حركة القدمين في خطوهما المتناغم أثناء السير أو الرقص، حركة الموج، رفة جناح الطير، كل ما يوحي بالعزف دون صوت.. كتبت لها ذلك كله، كنت أشعر بإجهاد شديد وأنا أفعل؛ مرهق للغاية أن تنزع عن شيء أصلَ كنهِه ثم تحاول وصفه!
لم أحاول وحدي ذلك، الآخرون حاولوا أيضا، كلٌ بحسب خياله وشعوره وأثر الموسيقى على نفسه، وبحسب قدرته على الوصف.. كلنا من صحيحي السمع، وكلنا كنا نحاول وصف الشيء نفسه، إلا أننا لم نتفق على التشبيه؛ فقد راح كلٌ يتخيل ويشرح ويُعرِّف الموسيقى من وجهة نظره.
والمؤكد أنه مهما كنا نجحنا، أو أحدُنا، في تقريب الوصف لصديقتنا إلا أن أحدَنا لم يكن لينجح في نقل شعوره الخاص حين يستمع إلى النغم، لكن اختلاف التلقي وتفرد الشعور عند كلٍ منا لم يكن هو الشيء الوحيد الذي
استوقفني؛ توقفت كثيرا -أيضا- عند شعورنا بالحرج من سؤال صديقتنا.
الشعور بالحرج الذي يترجِم مفهومَنا عن المختلفين عنا.. الطيبون يتعاملون مع اختلافٍ من هذا النوع بشعور مشفق، ويتعامل معه غليظو القلوب بشكل من السخرية والاستخفاف.. والحقيقة أن الأمر لا يستدعي هذا ولا ذاك؛ فربما أن كل المطلوب منا هو أن نتعامل بندية ومساواة -حقيقية- مع الجميع، مع مراعاة المتطلبات الخاصة لكلٍ منا بحسب اختلافه.. نحتاج بشدة إلى ترسيخ هذا المفهوم، وإلى نبذ فكرة \”الإشفاق\” التي تحمل في طياتها نظرة متعالية على الآخر؛ برغم أن موقفـًا كهذا الذي وضعتنا فيه صديقتنا يكشف لنا بوضوح أننا لا نتشابه حتى لو بدونا كاملي الخلقة، ولو لم يبدُ فينا نقصٌ ظاهرٌ.. أننا جميعا مختلفون ولو امتلكنا نفس الحواس.. أبداً ليس بيننا كامل وناقص، بل جميعنا يملك الكمال الفردي، والنقص البشري الحتمي، بشكل أو بآخر.. أنت كامل بنفسك، لا مجال للقياس بآخرين.
هيلين كيلر.. من أشهر النماذج الإنسانية لهذا الكمال الفردي.. تلك المعجزة التي استطاعت مع معلمتها \”آن سوليفان\” أن تصنع حياة كاملة مبدعة وملهمة من كيان لا يتمتع بكامل الحواس التي نعرف بها نحن الحياة، لكن هيلين استطاعت أن تعرف الحياة وأن تمنحها من روحها، بغير حاستي السمع والبصر، اعتمادا على اللمس.. لم تتعامل معها مُعلمتُها، ولا من أحاطوها، بإشفاق مَن يمنح وإنما بندية مَن يشارك.. لم يجعلوها على كفاف الحياة وأطرافها تتقي العجْز، وإنما في القلب منها، تتفاعل معها، حتى صارت مانحة وداعمة للآخرين.
وإذا كانت هيلين قد برعت في الفكر والكتابة، فإن بيتهوفن قد تحدى فكرة الحاسة نفسها، فبرغم ألمه لم يستسلم لفكرة العجز -حين فقد سمعه – ولم يلتف على الحياة من بابٍ آخر، وإنما طرق بابها القابع خلف حاسته المفقودة – المفقودة فيما يبدو لنا- نفسها! ليمنحنا نحن بموسيقاه انتشاء سمعيا.
لا ندري كيف صنعه ولا كيف تفاعل معه، وإن كان علينا أن نوقن بأنه كان يتفاعل معه وينتشي به ربما أكثر منا غير أننا لا ندرك كيفية ذلك.. ربما علينا أن ندرك أن الحواس، كلها، أبعد وأعمق من ظاهرها، من تلقّي الصوت والصور والروائح وغيرها بشكل مباشر، المؤكد أن لها أثارا على النفس والجسد معا، وأن لها منافذ أخرى للإنسان تصله بالكون وإن بدا فاقدا لإحداها.. فيما يبدو لنا!
والحقيقة أن أزمتنا هذه لا تتعلق فقط برؤيتنا وتعاملنا مع فاقدي بعض الحواس، وإنما مع كل مختلف، في أمر جسدي أو اجتماعي أو ديني أو فكري.. هل تبدو كأنها قضايا مختلفة؟ على الإطلاق، المنظور واحد، وهو العجز عن تقبل المختلف، والمحاولة الدائمة لوضعه في تصنيف ما يعفينا من المعاملة الندية المساوية، المعاملة التي لا تعرف العدوانية ولا الاستخفاف ولا حتى الإشفاق، وإنما معاملة بالتقدير والتفهُّم والقبول.. ليس نقصا بل اختلافا.. سيكون علينا أن ندرك هذا ونتفهمه لكي نستطيع التعامل على أساسه، في كل المناحي والمجالات، بدلا من أن نتبادل مواقع الانتقاص والازدراء والتربص والعدائية، ولكي نوفر طاقاتنا المهدرة من جرّاء تلك النظرة التي وضعت كلا منا في حالة دفاع عن نفسه طوال الوقت، عن اختلافه أيا كان نوعه، فليس من المنطقي أن يهدر الإنسان عمره في محاولات إثبات جدارته بالحياة، ولا أن ينتظر إذنا من الآخرين يبيح له اختلافه! ولا من المنطقي أيضا أن يترك الإنسان حياته وراء ظهره موجها بصره إلى الآخرين ليصنف ويحكم ويرصد الاختلافات والنواقص بمقياسه الشخصي!
حين تحاول وصف مفهومك عن الدين، أو عن الفن، أو الحب والحياة بكل ما فيها، للآخرين، تكون كمن يحاول وصف الموسيقى لشخص أصم، لكن بإمكاننا أن نجعل من الرؤى المختلفة والمتباينة تلك توسعة لدنيانا، زوايا جديدة هناك يراها آخرون، نوافذ جديدة للنور.. بإمكاننا؛ إن نحن أدركنا أنه اختلاف وليس نقصا.
سؤال صديقتي لم يرني فقط اختلافات الآخرين، الاختلافات الجميلة التي وسعَّت ليَ الكون بقدر ما أكدت لي فردانية كلٍ من البشر ووحدته في عالمه وأحاسيسه وتلقِّيه للحياة بكل ما فيها، سؤالها كشف لي أيضا الموسيقى في نفسي.. أخذني إلى أعماق لم أتأملها من قبل، أشارت لي إلى
نافذة في الروح تتسلل منها الحياة إلى وجداني بغير إدراك مني، لأنني مشغولة طوال الوقت بالحاسة نفسها، ولم ألتفت من قبل إلى مداخلها الأخرى للروح.. هكذا أستطيع -ربما- أن أتصور كيف سأسمع الموسيقى إذا فقدت أذني.
وددت لو سألتُ صديقتي: كيف تسمعين أنفاس الحياة؟ إلى أي حد تشعرين ببراحها -الذي لا ندركه- داخل روحك؟ كيف ترين الوجوه الحائرة أمام سؤالك العابر ونحن الذين نبدو مالكين لحاسة \”زائدة\”!