نهى البلك تكتب: رحلة خارج مدينتنا المأزومة.. غابة خمس نجوم!

في طريق العودة، بعد سفر قصير إلى الأسكندرية بحثاً عن الاستجمام وتغيير المعتاد، كان لائقاً بختام الرحلة أن يكون مختلفاً.. مثيراً.

بعدما ضاق المكان داخل المدينة بحياة كريمة لائقة، حين طاله الإهمال وتراكمت آثار الفقر عليه، وفقد بفعل الوقت بريقه وبهاءه وفخامته الأولى، تماماً كما فقدت أغلب الأحياء الراقية والمتوسطة كثيراً من زهوتها القديمة وبدلاً من أن يزيدها الزمن تطوراً وإعماراً سلبها ألوانها، وباتت

كامرأة هلَك على جسدها ثوبها الأنيق الثمين- قرر بعض أصحاب رؤوس الأموال أن يستثمروا الوضع، لينشئوا بديلاً -أو أكثر- هناك.. بعيداً.

مكان جديد أكثر فخامة، مجهز بشيء من الترف – مقارنة بالقديم- مع بذل الجهد للمزيد من التهيئة والملاءمة، لعله يكون مغرياً بالحياة، جاذباً للزوار.. وفرصة لمكاسب مضاعفة.

ذكرني بـ\”الكمبوندات\”.. المدن والقرى والأحياء التي أنشئت حديثاً هرباً من آثار الزمن والبشر، على المدن القديمة، صحراء تم تجهيزها حتى تحولت إلى مدن كالمدن، موفر بها كل ما يتيح حياة مرفهة مغرية، منفصلة، بعيداً.

غابة خمس نجوم، جُهزت خصيصاً لتليق بكائنات مترفة، تَعـِد بحياة سعيدة لساكنيها وبمتعة كبيرة للزوار.

المدخل – بلسان حاله – يخبرك ألا تتوقع مكاناً بائساً يشبه الحديقة القديمة داخل المدينة، فهنا مستوى آخر.. ومع ذلك غَلَبتْ على ذاكرتي معالم الحديقة القديمة، فإن فيها فخامة وأصالة وجمال، غير أن الغبار طمسها، وبدَّلها.

دخلنا بالسيارة، فأنت هنا معرض لمخاطر لن يحميك منها إلا وجودك داخل صندوق، وإن كان به منافذ زجاجية تسمح لك فقط بأن ترى، وتتأمل.. وأن تلتقط الصور أحياناً.

ليست إرشادات شفوية فحسب، وإنما هناك لافتات عليك اتباعها، لكي تعرف طريقك، ولكي تأمن.. الأمر واضح من البداية، أنت – كزائرٍ- مقيدٌ بتعليمات، وما تخييرك إلا في إطار تلك التعليمات المحددة سلفاً.. وأنت بدخولك قبلت بالشروط.

قيل لنا إننا سنستمتع بالكائنات، بالداخل، وجهاً لوجه، لأنها تحيا كما ينبغي لها.. حرة.

كائنات تم جلبها من مختلف بقاع الأرض، لتحيا في إطارٍ واحد وتحت إدارة واحدة، ربما كان القائمون عليها لم يروا أياً من تلك الكائنات من قبل ولا عرفوا عنها ولا فهموا تكويناتها واحتياجاتها واختلافاتها.. هناك دول قامت بنفس الطريقة على أي حال!

أول ما قابلنا كان \”سعد\”.. النمر، الأنيق، المهاب.. النمر -أو هو\”الببر\” اسمه الأصح- الذي يعتبر \”ملك الوحوش\” في الحضارات الآسيوية، بدلاً من الأسد، وله حضور كبير في الثقافة والوجدان \”الصيني\”.

أعتقد أننا لازلنا لا نعرف عنه الكثير ولا نقدره حق قدره، فاكتفى من يملك منا المال باستثماره، واكتفينا نحن بوضعه في قفص للفرجة!

كان \”سعد\” خلف قضبان تحمينا منه، ومن وراء القضبان يبدو المنظر كأنه طبيعي -فهنا كل شيء \”مصنوع\” بدقة لكي يبدو طبيعياً !- زرع وماء وتلة.

داعبناه والتقطنا بعض الصور معه، بمساعدة الحارس، يأمره فيفتح فمه، يأمره فينظر إلينا بعينيه العسليتين الحزينتين، يأمره فيذهب إلى مكان مبيته.

هكذا إذاً.. هي أيضاً كائنات حرة -كده وكده!- وراء قضبان وتأتمر بأوامر الحراس، وتطيع بحسب ترويضٍ وتدريب، ترويض لم يهذب بقدر ما بدَّل الطبيعة.

الطبيعة.. فكرت كيف استطاعت الإدارة تهيئة البيئة المناسبة لكل الأنواع في مساحة واحدة ومحدودة، وكل منها أتى من بقعة مختلفة من الأرض، ويحتاج إلى مناخ معين تقوم عليه حياته، ومكان يناسب حركته وتفاعلاته مع ما حوله؟

وهل تستطيع التعرف على كائن ما خارج بيئته ومكانه الملائم لطبيعته؟ في الغابات والبراري تختلط الكائنات المختلفة، لتتفاعل فتَنشأ الحياة وتستمر وتتطور، فهل يمكن أن تقوم حياة كاملة مع عزل كل منها مع ما يشبهها فقط.. مع جنسها وحده؟!

بعدها دخلنا إلى حيث يعيش الكبش البري – أو \”الأُرْويّة\”- بعدما أخبرَنا الحارس أنه علينا البقاء في السيارة، حيث إنه كائن وحشي ومطلقٌ سراحه.

يُرجع علماء الحيوان أصل نشأته إلى بعض البلدان العربية، ومن ثم نُقلت بعض السلالات إلى باقي دول آسيا، وأميريكا، حيث توفرت له مزارع صحراوية واسعة غنية بالمراعي فتكاثر وتوافر هناك، في حين يقترب من الانقراض في موطنه العربي!

تمتلك ذكوره قروناً ضخمة تعينها على الدفاع عن نفسها حيث هو فريسة النمر الأثيرة، أما أنثاه فلا تمتلك معظم سلالاتها قروناً، وإن امتلكت فهي صغيرة للغاية مقارنة بالذكور!

فتح الحارس باب السيارة لكي يضع بين يديَّ بعض الحبوب ليأكلها الكبش فأستمتع! وهذا ما لم يحدث بالطبع، حيث ابتعدت، بكل ما ملكت من قدرة ومساحة، بمجرد مرأى الفم الطويل الممتد الذي يطحن بأسنانه البارزة حبوباً تناولها من بين يديّ أخي.. نظرت إلى الكبش وأنا أصرخ، حين اقتحامه علىّ جلستي المطمئنة، صرخة احتراس تأثراً بالتحذير المسبق أكثر منها صرخة خوف، لأجده يحرك فمه في ميكانيكية واعتياد، وينظر إلىّ بعين مستسلمة طيبة لا تخفي شيئاً.. حتى إنني لمتُ نفسي على عدم الترحيب به بما يليق بكائن لطيف.

ثم انتقلنا إلى مساحة أجمل وأوسع، حيث رأينا الحيوان الجميل.. اللاما.. تصنيفه ينسبه إلى فصيلة الجمليات، يعيش في أميريكا الجنوبية.. وأما شكله فيعد من الكائنات الفاتنة! ستجد فيه ملامح من الغزال والجمل والضأن معاً، له عينان جميلتان، وفروته ناعمة جداً كفروة الأرنب، غزيرة كفروة الخروف، وألوانه متعددة، أبيض في رمادي، وبني، وأبيض في أسود.. وهو مستأنس، طيب، ومتعاون مع البشر.

قضينا وقتاً طويلاً مع عائلة اللاما، نداعبها ونتأمل جمال الخِلقة – جَلّ الخالق- ويركب على ظهورها الأطفال.. وأطعمناهم كثيراً؛ فهناك يوفرون طعاماً جيداً لساكني المكان، تبدو أجسادهم ممتلئة صحيحة، بلا حياة.

غطى الحارس سيارتنا بالطعام، وأغلقنا النوافذ جيداً، ودخلنا حيث يقطن الضبع.. هو حيوان يعيش على أكل الجيف، وبقايا صيد وفرائس الحيوانات الأخرى وصوته عواء قبيح.. أنثاه تسمى \”ضبعانة\” وتكنى بـ\”أم القبور\” لشدة ولعها بنبش القبور وأكل لحوم بني آدم.. وتضرب العرب به المثل في الخسة والفساد، كما قال \”كمال الدين الدميري\” في كتابه \”حياة الحيوان الكبرى\”.

تقدم الضبع نحونا بكيانه الثقيل، ليلتقط قطع الخضار من على الزجاج.. إلتصقت عيناه اللزجتان بالنافذة، فشعرت باشمئزاز وانقباض.. هو كائن مؤذٍ، وبلا أي جمال، ويوحي بالغباء الشديد!

بعكس العائلة التي انتقلنا إليها لكي تنقض على السيارة بعدما غطاها

الحارس بالطعام من جديد.. فبمجرد أن دخلنا، حيث الجبلاية، تقافزت القرود، كبارها وصغارها، على السيارة بحركات ذكية مبهجة، وأتت على الطعام كله، ثم عادت إلى الجبلاية، فهي تحفظ دورها جيداً في هذه المنظومة، وتؤديه بإتقان أفقدها الكثير من عفويتها وحقيقتها.. لا أعرف لماذا شعرت بأن شيئاً ما في هذه الكائنات -الذكية – منطفيء!

مررنا على بحيرة البجع.. الراقصات الجميلات.. والببغاء الملون، وسيد قشطة، والنعام، والجمل، والكنغر.. وزرنا بيت الدببة.. نظرت فرأيت دباً واحداً، أسفل منا، عند البحيرة المجهزة لعائلة الدب، يجلس معطياً ظهره إلى البحيرة، ووجهه إلى الصخور.. سألت الحارس هل هو ذكر أم أنثى، فقال إنها أنثى، واسمها رشا.. سألته: لماذا هي وحيدة، فأخبرني بأنهم كانوا أربع دببة، مات ثلاثة وبقيت رشا.

كان الجو يومها قائظاً، فخطر لي أنها لابد تعاني في جو كهذا يناقض مناخ نشأتها، فسألته قال إن هذا هو سبب موت الدببة الأخرى.. لم تستطع التكنولوجيا إذاً أن توفر الجو الملائم للكائنات المسكينة، إلا لفترة قصيرة، هلكت بعده التجهيزات وعاد كل شيء إلى طبيعته… تركنا المكان وأنا أشعر بأسى شديد على رشا.

ولن تخلو غابة، وإن كانت غابة صناعية، من ملك.. وعرين.. تحركنا إلى عائلة الأسد وأنا أُمنّي نفسي بإثارة حقيقية، لاسيما وأنا أتخيل كيف يمكن أن يكون قد تم التجهيز له والاحتفاء به في الغابة الفاخرة.

العرين، بيته أو مكانه المخصص، واسع جداً إذا ما قورن بالقفص الذي اعتدت أن أراه بداخله في الحديقة القديمة، غير أن القضبان نفسها موجودة، تفصلنا عنه حيث جلس ملاصقاً لها، وعلى مقربة منه أنثاه، جلست وظهر كل منهما للآخر.

لا أعرف كيف أو ممَ نستطيع التكهن بمشاعر الكائنات الأخرى، وإذا ما كان لوجوه الحيوانات تعبيرات دقيقة وواضحة لنا إلى هذا الحد، لكنني رأيت على وجه الأسد مسحة من الأسى والغضب والملل معاً.. نفس الشيء رأيته في وجه أنثاه.. وقفنا نتأمل المنظر كاملاً، فوجدنا آثار دماء غزيرة.. دماء تبدو طازجة، نُزفت للتو.. هل تعاركا؟ فهنا لا مجال للصيد ولا مكان للفرائس، هم وحدهم داخل هذا البيت الكبير، الطعام يأتيهم جاهزاً، لحماً خالصاً.. وهل هذا يكفي؟ هل يفي بالغرض؟ هل يمكن أن يستكين كائن حي لحياة -مهما بدت رغدة- وهو لا يفعل أي شيء من أفعال وأشكال الحياة؟! وما الحياة بالنسبة للحيوانات سوى الحركة!

هل يستغنى الحيوان عن نشاطه في مقابل طعام مضمون ووفير؟.. أليس الصيد بالنسبة لهم كالعمل بالنسبة للإنسان؟ هل يطيق الإنسان حياة بلا عمل أو إنجاز من أي نوع؟

حمل الحارس شبلهما الصغير وجاءنا به لكي نلتقط بعض الصور.. وهذا فعلاً كل ما بدا، صورة صماء لأسد وعائلته.

في طريقنا إلى الكهف.. وكان لابد أن نرى النسر، نراه حياً نابضاً، غير مرسوم ولا معلق.. اللافتة تقول إنه هنا؛ ولكننا لا نرى شيئاً! بعد فترة من البحث ومحاولة تدقيق النظر رأينا خيالاً لنسر كبير، يقف فوق غصن متوارٍ، لكن بعدها استطاعت أعيننا أن تلتقط أجساماً لنسور صغيرة موزعة حولنا على الجانبين، كلها تقف كأنها تستعد لالتقاط صورة لكي توضع على العلم!

الكهف مظلم صامت، وأنت قادم من عالمٍ صاخبٍ صخب ضوئي وصوتي.. غرف زجاجية، في كل غرفة كائن غامض يحترف التخفي، وفي الغالب لا يعرف إلا الليل.. ثعبان الكوبرا وثعبان الرمل، والضفدع، والجربوع، والسحلية والسلحفاة.

كأنها أتت من عالم آخر.. تسير ببطء كأنها ترجع بعقارب الساعة.. هي تحت ظهرها الثقيل لا يعنيها ما بالخارج؛ فلو سقطت عليها حجارة من سقف الزمن لما أصابها سوء! لا تعرف أنت إن كانت تكتم حكمة ما، أو هي لا تعرف أي شيء.. منعزلة هي تماماً لدرجة تعكس لك طمأنينة غريبة.. ربما هي الكائن الوحيد الذي شعرت أنها تعيش بأمان!

أما الشيهم فهي أول مرة أسمع عنه أو أراه.. شكله مميز بأشواكه البيضاء في أسود التي تغطي جسده كله، يشبه القنفذ لكنه ليس من فصيلته.. كان من المعتقد أنه يطلق أشواكه صوب أعدائه، غير أن الباحثين اكتشفوا أنه لا يعمد إلى ذلك، وإنما ما يحدث هو أنه ينتفض ويتحرك هارباً من مهاجِمِه، فينطلق منه الشوك ويصيب المعتدي، ثم تنبت مكان الشوكة المفقودة، الشهيدة، شوكة جديدة لها نفس الصلابة والحدة والنفاذ.. وللمفارقة، فإن لحم الشيهم يؤكل في فيتنام، ويصنع الأميريكيون من شوكه أغطيةً للرأس!

وقفتْ تنظر بعينين كبيرتين، يعلوهما أهداب طويلة تمنحها منظراً أنثوياً، غير أن النظرة حادة.. متحدية.. وجه البومة مميز جداً، وهي كائن محير مختلف عليه! اعتبرته الحضارة الإغريقية القديمة رمزاً للحكمة، واعتبرته ثقافات أخرى رمزاً للشؤم.. العين الواسعة والأهداب الطويلة والمنقار الصغير والريش الملون يجعلها تبدو لك تارة جميلة وتارة مقبضة مخيفة.. حواسها القوية وريشها الناعم هم قوتها ووسيلتها للحياة؛ فبالسمع والبصر الحادين تتلمس طريقها، ويمنحانها قدرة على معرفة ما يشكل خطراً عليها ومعرفة أماكن فرائسها المحتملة.. تطير ليلاً بريشها الناعم فلا يصدر عنها أي صوت يلفت إليها عدواً أو يحذر منها الفريسة.. تأملتُها طويلاً.. ثم أردت أن أختبر عينيها، سرتُ ببطء في نصف دائرة، فدارت معي عيناها بوجه ثابت، تتابعني وتعود معي حيث أعود!

ابتسمت لمرآه! معلق من قدميه ورأسه إلى أسفل، بجناحين أسودين مفرودين.. يبدو كمعاقـَبٍ أو مشنوق من كعبيه! مضحك هو أكثر منه مخيف، برغم اسمه الموحي بالرعب \”وطواط\”.. تخيلت ماذا يرى ورأسه مقلوبة هكذا؟ هل يرانا مضحكين كما نراه؟ كيف يرى العالم أو يرى بلادنا أو يرى غابته الفاخرة هذه؟ ماذا سأرى أنا إن انقلبت مثله على رأسي.. أينا يرى الصورة الأصح، نحن.. أم هو؟!

هناك اعتقاد بأن الوطواط أعمى لا يرى.. لكنه في الحقيقة يمتلك قدرة على الإبصار -تختلف باختلاف نوعه إن كان مما يطير نهاراً أو يطير فقط ليلاً عند الغروب- غير أن اعتماده الأساسي في إدراك ما حوله يقوم على الصوت.. على ارتداد الصدى.. هكذا يعرف مكانه من الأشياء ومكانها منه.

سمع أو بصر، أو حدس، كلٌ يتلمس طريقه وحياته واختياراته بحسب ما قوى لديه منها، ولا أحد يستطيع الجزم بمن يعرف أكثر أو يهتدي أدق أو تـنكشف له الحجب.

كان لطيفاً للغاية أن نختتم اليوم ببيت الطيور الملونة وأسماك الزينة.. جنة صغيرة.. ألوان وأصوات شدو وزقزقة متداخلة ومختلطة في انسجام ساحر، وماء يجري تحت قدميك ترى من خلاله الأسماك الملونة.. والحبوب متناثرة تأكل منها الطيور.. رفعت رأسي لأفاجأ بمشهد عاطفي لطائرين ملونين يتبادلان المحبة والغرام في طمأنينة وانتشاء، وكأن العالم كله هو جنتهم هذه الصغيرة!

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} (سورة

الأنعام).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top