نهى البلك تكتب: حياة

ربما كانت من أوائل الوجوه التي ألفتها على \”فيسبوك\”.. لم تكن الخبرة كافية بعد لتمييز الحسابات الحقيقية من تلك المزيفة.

من البداية لفتني اسمها، \”حياة\”، وهو تحديدا ما زادني حيرة في أمرها؛

هل هي شخصية حقيقية وذاك اسمها، أم هي – أو هو- شخصية تتوارى خلف اسم مجازي دال؟

صورتها جميلة جدا، أنيقة للغاية، راقية كإحدى الأميرات.. سورية وتعيش بالغرب، ودود، كأنها على موعد غرامي مع كل شئ.. تنثر رقتها ودفئها واهتمامها على الأصدقاء بكرم، وبصدق.

كم أخجلني ودها الدائم، لعجزي عن رده بما يكافئه، أو حتى بعضه.. ربما لم أفتقد دعمها وتشجيعها أبدا على كلماتي التي أنشرها بدأب وحرص أحيانا، وبلا اكتراث في أحيان أخرى.

فجأة بدأ حديث حياة يأخذ منحنى تراجيديا؛ حديث متواصل عن المرض،

حياة، طبيبة القلب، تقول إنها على وشك إجراء جراحة في القلب.. ازداد نشرها لصور طفلة جميلة للغاية، قالت إنها ابنتها.

الطفلة ملامحها مرسومة لدرجة تثير شكوكك حول كون الصور طبيعية أم أنها \”كروت بوستال\” تستخدمها تلك الشخصية الوهمية لحبْك القصة.

أخذني نشر حياة لفيديوهات عمليات جراحية حقيقية وكاملة، لحالات قلب شبيهة بحالتها.

لم أستطع منع نفسي من التماهي مع ما يجري دون التوقف أمام تشككي في صاحبة -أو صاحب- الحساب.

وقتها لم يكن عمر \”الفيسبوك\” طويلا بما يكفي لإكساب خبرة تفرِق بين الحسابات، الحقيقي منها والمزيف.

استمررت في مؤازرتها ومواساتها وتشجيعها، مع كل الأصدقاء، وكانت تستجيب؛ بل هي التي بادرتنا في أغلب الأحيان ببث التفاؤل.

أرادت دائما بالفيديوهات والتقارير والأبحاث الطبية التي تضعها على صفحتها أن تثبت لنا، أو لنفسها، أن العملية بسيطة.. ومضمونة.

وحان موعد العملية، وودعناها بالدعوات والأمنيات، وقابلت هي ذلك بالامتنان والوعد بالعودة.

ودخلت \”حياة\” غرفة العمليات، بحسب ما علمنا من شاشة الكمبيوتر عبر فيسبوك، وبعدها أخبرنا الفيسبوك أن \”حياة\” قد ماتت.
وقتها بالتحديد اقتربت من اليقين بأن تلك الشخصية مزيفة، وأنه حساب وهمي أراد صاحبه أن يفتعل قصة مثيرة إلى هذا الحد؛ ليلهو، أو ربما ليختبر شيئا ما.

لكن أصدقاءً مشتركين كانوا يعرفون \”حياة\” في الواقع.. وحضروا دفنها

وانتشرت صور جنازة حياة على صفحات الفيسبوك.

وبات الشك يتلاشى بالتدريج، لكن بسرعة، حتى تحول إلى يقين، عندما أصبحتُ صديقة لابن \”حياة\” الأكبر، على فيسبوك.

وقتها تأكدت أن حياة كانت حقيقة.

الآن تلح علىَّ صورة حياة، الجميلة، بشكل لم أستطع مقاومة كتابته، ولا أعرف إن كان ما يتحرك في خاطري هو \”حياة\” التي كنت متشككة في وجودها، أم حياة التي بت على يقين من أنها كانت حقيقة.
………………..
الآن صرت أكثر حذرا من البت في أمر شيء ما، كونه حقيقة أم خيالا أفترضه، صدقا أم كذبا، صافيا أم تشوشه شوائب علقت بأهدابنا حتى اختلطت على عيوننا وعقولنا الصور.
إذا كان اليقين قاتلا للمعرفة، فإن الشك مجهضها كلما نبتت نطفة.
أحيانا لا ننتبه إلى أننا نبحث عن يقين يماثل اعتقادنا فيه، وليس كما هو في الحقيقة.
تخيل أنك تستيقظ في يوم غائم لتنظر إلى سماء مظلمة، هي في الحقيقة نهار توارى، ستراه عينك ليلا أو يكاد.
اليقين الذي يوافق رصيدنا من العلم، اليقين الذي \”يرضينا\” إذا هو ما نبحث عنه!
\”حياة\” في ذاكرتي لها حقيقتان، إحداهما – برغم كذبها- تشوش على الأخرى برغم يقينيتها.
تضيع أعمارنا ونحن في شك من أناس في معيتنا، وشك في اختياراتنا، في معتقداتنا، في رغباتنا، في مشاعرنا، ربما في وجودنا نفسه، نشك لأن معارفنا السابقة قولبت مدخلاتنا وحددتها دون أن ندري، وحالت بيننا وبين الجديد \”الحقيقي\” في مقابل القديم \”المفترض\” أو المتوقع.
حدث كالموت، ربما هو ما نحتاجه لكي تتزلزل حوائط معارفنا وتسقط لتفسح الأفق لرؤية أبعد وأرحب.. هناك خلف الجدار الذي يسمك في كل يوم ويشحب طلاؤه، حقائق قديمة لم نعرفها بعد، وأخرى جديدة تولد وحان وقت معرفتها.

الثمن غال ومخسر حين ننتظر الموت، الانتهاء، الذهاب بلا رجعة لشخص أو لمعنى أو لحب أو لمحاولة حياة..
ماذا لو تخيلنا.. الخيال هو باب آخر سحري، يغني عن الموت ويفتح طريقا للمعرفة.
ربما علينا فقط أن نتخيل عكس ما تفرضه علينا معارفنا القديمة، عن كل شيء، تلك التصورات المتشبثة في ألبابنا كشجرة ذبلت لا تثمر وتشغل الأرض بلا حياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top