كان \”أناتول فرانس\” مدعوا إلى وليمة في يوم الأحد، كما روى جان جاك بريستون.. وفي يوم السبت فوجيء أصحاب الدعوة بطرقات على الباب ليجدوا أناتول فرانس أمامهم يخبرهم بأنه جاء حسب الموعد، قالوا له إن الدعوة ليوم الأحد، واليوم هو السبت، فالموعد غدا.. لكن فرانس أخبرهم بأن اليوم هو الأحد!
حاولوا إقناعه فلم يقتنع، وظل مصرا على يقينه بأن اليوم هو الأحد! ربما ليس من بيننا أحد لم يتعرض، في نفسه أو أحد ممن يعرفهم، إلى خطأ طبي قد يصل إلى حد يودي بالحياة، أو أن يترك أثرا سلبيا مستديما، أو على الأقل يؤخر التشخيص الصحيح، وبالتالي يتأخر العلاج ربما إلى حد يصير معه مستحيلا.
يكثر هذا لدينا، حيث انتشار الجهل والفساد وغياب الرقابة والمحاسبة.. في حين يقل للغاية في بلدان أخرى يرتفع فيها مستوى الوعي وتتحدد المسئوليات وتتوزع الأدوار، وحيث الرقابة يقظة والمحاسبة حاسمة.
في حالة الأعراض الجسدية، الواضحة، التي يتعامل معها الأطباء بحواسهم، بالنظر والسمع وغيرهما، لاكتشافها والتعرف عليها والتمييز بينها وبين غيرها من أعراض قد تتشابه، بالتحليلات والأشعات وغيرها، تبقى احتمالات الخطأ موجودة، وربما يسهل اكتشافها.. فماذا عن التعامل مع النفس البشرية؟ مع الفكر والوجدان؟ خصوصا تلك النفس الصغيرة، الغضة، التي تتعرف على الحياة لتوها.. ونحن، الكبار من حولها، نحن بالنسبة لها جل الحياة.
ليس أكثر حساسية من النفس، هي الأكثر تأثرا وتفاعلا مع ما يحيطها، يزيد هذا كلما كانت مرهفة أكثر، كنفوس المبدعين.. أكثر من يتعامل مع \”النفس\” ويؤثر فيها هم الأهل والمقربون، لكن هناك فئات أخرى تتعامل معها وتؤثر فيها بشكل مباشر وعميق، بالضبط كالطبيب الذي يجلس الإنسان بين يديه لكي يخبره عن حالة جسده، يفعل ذلك نفسه الطبيب أو -العالم- النفسي، والمعلم، ورجل -أو عالم- الدين.
والمبدع، الموهوب في أي مجال، هو ذلك الشخص الذي يأتي بجديد غير مألوف، قد يصل به الأمر إلى حد الشطحات المؤذية -لنفسه أو للآخرين- لكنها في الغالب تبقى في حدود الاختلاف عن العادي والمألوف، مجرد اختلاف، لكنه مبدع ومضيف ومجمل للحياة بشكل أو آخر.. فكيف يمكن أن يتفهم ذلك ويتعامل معه أشخاص عاديون تصادف كونهم درسوا علما ما خولهم للعمل في مجال التعليم أو الدين أو الطب النفسي؟
لا أستطيع تحديد عدد الموهوبين الذين انطفأت موهبتهم لوقوعهم تحت أيدي معلمين محدودي الذكاء، لكني واثقة من كثرتهم في بلادنا، أضعاف أضعاف من تأذوا وراحوا ضحية الأخطاء الطبية التي تتزايد،؛ فعادة يخرج الطفل الموهوب عن المألوف، عن العادي الذي ينتمي إليه المعلمون وأغلب المحيطين به، ولا يملك الصغير ما يرتفع به عن الأغلال التي تكبل ساقيه والمعقودة بعقول ضيقة تتحكم فيه، ولا يملك ما يدعم قوته النفسية، إلا إذا كان محظوظا بشكل شخصي بأسرة على درجة من الوعي تكفل لها اكتشاف صغيرها ورعايته وحمايته مما يلاقيه بالخارج.
نفس الأمر، عندما يكون للدين هذا الأثر العظيم في نفوس مجتمعات كمجتمعنا، فإن عقول رجال وعلماء الدين تصبح حَكَما على الكثير من الأمور من حيث لا ينبغي أن يكون.. لكن مع زيادة مساحات الجهل وانحسار العلم تزداد تلك القوامة ويجعل البعض لها قداسة ربما تتعدى حدود منطقة علمهم إلى ما ليس لهم به علم ولا جعل الله لهم عليه من سلطان.. لكن أنَّى لمن تضاءلت لديه المعرفة واتسعت بداخله العاطفة القدسية أن يميز ويفرق بين حدود نقل العلم \”الديني\” وحدود التسلط والسيطرة، وأنَّى له أن \”يتجرأ\” على غلق الباب أمام العالم حين لا ينبغي له أن يخطو!
كم من العلماء راحوا ضحية انغلاق عقول رجال الدين؟ وكم من المفكرين والأدباء كذلك.
هناك فرق بين العلم، وبين مساحة الوعي.. كالفرق بين \”الحفظ\” وبين \”الفهم والاستيعاب\”.. هذا هو ما يصنع الكثير من المآسي في حياتنا، وهو
نفسه ما يؤخر مجتمعات ويسمح لأخرى بأن تتطور، فليس كل من تعلم وحفظ يستطيع القياس واستنباط الأحكام، وليس كل من امتلك القدرة على الاستنباط يملك معرفة حقيقية واستيعاب المواد ونصوص وأفكار المبدعين والمفكرين والأدباء.. قلة ممن يجمعون بين العلم الديني، والثقافة الفكرية والأدبية والفنية، والوعي والتفهم الإنساني العام.. وحين يجتمعون فالنتائج تكون مذهلة في تأثيرها على المجتمع والبشر.
في أحد البرامج، التي تقوم على الضيف والتليفونات، جلست طبيبة نفسية لاقت قبولا لدى الناس، لأسلوبها البسيط وتعاملها اللطيف الودود، وكانت المتصلة تشكو من حال زوجها.. نرجسي، عاشق لذاته، مشغول بنفسه طوال الوقت؛ فبماذا نصحتها \”الطبيبة\”؟ قالت لها إنه بإمكانها أن تستغل ذلك، لترضي غرور زوجها فتتكسب من ورائه، ذلك بإغداقه عليها، لأن نرجسيته ستقوده لذلك!
لا أريد أن أصف النصيحة بغير أنها تليق بجلسة نسائية لزوجات \”قرشانات\”! يتآمرن على أزواجهن، وليس بطبيبة نفسية مفترض فيها الوعي والرقي والعلم!
وطبيب آخر جلس في أحد البرامج -أيام أزمتنا مع ماتش الجزائر- ليسب الشعب الجزائري في زحمة المزايدات وقتها.. الفارق في الأمر هنا هو أنه \”طبيب نفسي\”!
وغيرهما أمثلة كثيرة جعلتني أتساءل: أهؤلاء هم من يحكم على نفوس البشر؟
يصفونها بالعافية والسواء أو بالمرض والاختلال؟! كم من الأسوياء قد جلس بين يدي أمثال هذين الطبيبين وخرج من عياداتهم بأفكار غير سوية عن نفسه وعن الآخرين وعن العالم، أو تلقى وصفات وتجرع أدوية خربت في عقله ووجدانه وربما دمرته وأسرته، بفضل تشخيص خاطيء من عقول كهذه؟! وهل يمكن قياس النفس كما يقاس الجسد، بمعادلات ثابتة محددة تنطبق على الجميع؟ وهل يمكن أن يوكل أمر النفس والعقل والوجدان لبشر يختلف بالضرورة عمن يناظرهم ويحادثهم ويشاورونه، فيصب عليهم عصارة خبراته المحدودة وربما غير السوية أيضا!
لابد من وضع مقاييس أخرى غير الدراسة والحفظ والاختبارات النظرية والدرجات، لكي نختار من يتولى تلك المهمة الجليلة: مخاطبة النفس والعقل والوجدان.. المعلم ورجل الدين وطبيب النفس، خصوصا في بلد لايزال يحارب الأمية، والفقر، وأهله يصارعون أزمة الحياة اليومية ولا يمتلكون طاقة، إذا امتلكوا الوعي، لكي يكونوا طوق النجاة لصغارهم من الأيدي التي تتقاذفهم بالخارج، ولا يمتلكون ما يمكنهم من تقييم قدرات من يحدثهم في الدين، أو يتولى أمر التشخيص والعلاج النفسي لذويهم.
روي عن \”فولتير\” أنه كان لا يبدأ الكتابة قبل أن يضع أمامه اثني عشر قلما رصاصا، وبعدما ينتهي من الكتابة يقوم بكسرها جميعا ووضعها تحت
الوسادة.. لينام!
فهل يرتبط الإبداع لزاما بأفعال من هذا القبيل، تساعد المبدع على الاستغراق في عالمه والانفصال الجزئي عن محيطه، أو تمنحه أمانا أو شعورا ما بالخصوصية أو تلهمه أكثر؟ ربما؛ لكن الأكيد أنهم مبدعون ولو لم نستوعب نحن كامل أفعالهم، يظل علينا أن ندرك تفردهم، وأن نراعيه في نظرتنا وتعاملنا.
كان الطفل \”اسحاق نيوتن\” غبيا في نظر معلميه في المدرسة التي خرج منها موصوما بالفشل.. وكان \”جاليليو\” مهرطقا في نظر رجال الدين الذين حاكموه وأدانوه، وربما ظن أصحاب البيت الذي طرقه \”أناتول فرانس\” قبل الموعد بيوم أنه مجنون.
النفس، والعقل والوجدان، أثمن ما في الإنسان.. أثمن من جسده، وأولى بنا أن ندقق فيمن يتعامل معها ويحكم عليها ويؤثر فيها، مما ندقق في طبيب الجسد.. المعلم وعالم الدين وطبيب أو عالم النفس، هؤلاء الثلاثة هم أخطر من يتعامل مع الإنسان، ولا يجب أن ينال ذلك إلا من يتحلى بأعلى درجات الوعي والذكاء والثقافة والرقي الإنساني.