نهى البلك تكتب: الأحلام.. العمر الموازي

تفتح عينيك فجأة لتجد أن المكان قد تبدل من حولك، والوجوه.. والزمن.

تتعجب من كونك لازلت حيا وأنت الذي قتل لتوه، قتله أقرب الناس! لكنك نجوت، ربما، أو ربما أنت الآن شبحك المتبقي من حياة صاخبة وطويلة قبل أن تنتهي هذه النهاية المأساوية.

سيزيد عجبك عندما ترى القاتل يقف أمامك يربت على كتفك بحنو ليوقظك كيلا يفوتك الموعد المهم في العمل أو الدراسة أو الصلاة، وقد يتبع همسه الرفيق بقبلة دافئة على جبينك.

لن يستغرق الأمر إلا ثوان معدودة حتى تكتشف أنك الآن في عمرك الحقيقي، وأن ما كنت تعيشه منذ قليل، بالرؤية والشعور والسمع، لم يكن إلا حلما عادي.. هذه الأحلام التي تدور في اللاوعي، ولا أقول \”التي يصدرها اللاوعي\” لأنه قد لا يكون تماما كذلك؛ فعلم النفس الذي يفسر لك الأحلام كظاهرة، يضعها في إطار أقرب لليد، للإدراك، للعلم المقنن المثبت -حتى الآن وفي حدود التجربة الإنسانية التي لاتزال تكمل طريقها ولم تنته بعد- وبناء عليه فإن الأحلام من منظوره لن تتعدى كونها ترجمة لأحداث سابقة أو تراكمات نفسية تخرج في شكل صور وأحداث يفرزها العقل أثناء النوم، أو أشياء يخفيها الإنسان عن وعيه، كرغبات أو هواجس أو تخوفات، فيكشفها له لاوعيه ويواجهه بها حيث لا يملك مفرا!

لكن هذا العلم -علم النفس- لن يستطيع إفادتك أبدا وسيلتزم صمتا عاجزا أمام ما يتعلق من الأحلام بالمستقبل، ما تراه ثم يتحقق، حرفيا أو بانعكاس شديد الوضوح والدلالة، بعد الرؤية بأيام أو شهور وربما سنوات.. هذا الذي عرَّفه لنا الدين بأنه \”رؤيا\”.

في كل الأحوال يكون للأحلام أثرها القوي والواضح على حياتنا، للرؤى شعور مختلف وأثر أقوى من الأحلام والكوابيس، لكن يبقى لكل ما نعيشه في المنام، بكل مسمياته، كان حلما أو كابوسا أو رؤيا مبشرة، انعكاسه على مشاعرنا ونفوسنا وأحيانا ردود أفعالنا تجاه بعض الأمور. فمهما أخبرك عقلك بأنك ما أكلت تلك الثمرة الشهية التي رأيتها في فمك، سيبقى شعورك يغالبك ويذكرك بطعم شهدها الذي لازال يداعب رضابك.. الرائحة، الضوء، الملمس، كل شيء لايزال عالقا في شعورك كأنك عشته حقيقة، لا يبالي بتكذيب العقل ولا بسطوة اليقظة.

اليقظة.. ولليقظة أحلامها أيضا. لازلت أذكر حلم اليقظة الذي رافقني كثيرا في طفولتي، كنت أحلم بجهاز ضخم -يشبه جهاز الأشعة- يدخل فيه الإنسان بجسمه كاملا، ليكتشف هذا الجهاز أمراضه ومواطن أوجاعه ويعالجه منها في لحظتها، ليخرج منه سليما معافى قويا.. كنت أتصور، أو أتمنى، أنني سأخترعه يوما ما.. لا أعرف سببا لهذا الحلم، فلم أكن أصاب بأكثر من أمراض الطفولة المعتادة، مع بعض الحساسية في الصدر!

كنت أحلم بألعاب متطورة -ربما تم اختراع ما يشبهها أو يفوقها بكثير الآن- وكنت أحلم بلحظات نجاح وتفوق وتهنئة المدرسين الذين أحبهم. ومع العمر نكبر، وتختلف أحلام يقظتنا في الصبا، لتغرق في الرومانسية والطموح للمستقبل، ثم تختلف مع كل مرحلة لتواكب ما تكتسبه من خبرات ويفتح لك أبواب سعادة تأملها، أو يخلصك من غضب أو يؤهلك لموقف مهم.. قبل امتحان شفهي، أو مقابلة عمل، مثلا، تستطيع تخيل ما سيدور بينك وبين الممتحن أو صاحب العمل أو المدير، أو غيرهم، تستحضر بعض الأسئلة وتحاول ضبط الإجابة الملائمة، تتصور هندامك ومظهرك لتستعد بما يليق، وتؤهل نفسك لمختلف المواقف المحتملة.. يحدث هذا حين الاستعداد لمناسبة شخصية أيضا، كليلة الفرح، تتخيل العروس فستانها وشكل المكان وما سيقدم للحضور وغيرها من تفاصيل، لتصل إلى الأفضل ثم تسعى لتنفيذه.. الشعور الذي تعيشه أثناء حلم اليقظة يهيئك، بدرجة ما، للموقف كأنك قد عشته قبلا، أو على الأقل يكسر حدة الرهبة، ويساعدك على الاختيار من بين أشياء لا توجد في الواقع وإنما استحضرها خيالك وجسدها أمام عينيك كأنك تراها فعليا.

في حلم اليقظة أنت تتحكم، بوعيك، في كل شيء، قد تقابل حبيبا مسافرا أو تسافر أنت إلى بلاد لم تزرها من قبل لكنك سمعت أو قرأت عنها، قد تدخل في نقاش حاد تفوز في نهايته، فأنت جعلت خصمك أضعف حجة، ولو لم يكن! وقد تخوض مسابقة، من أي نوع، وتربح جائزتها الكبرى، لأن منافسيك أقل موهبة وكفاءة فيما صنعت بيد خيالك.. قد تفوق أحلام يقظتنا الواقع وتسبقه، وقد يفاجئنا الواقع بما هو أسبق منها، سلبيا كان أو إيجابيا، ويبقى حلم اليقظة ملائما لطبيعة الشخص وميوله؛ فمنا من يحلم بطعام يشتهيه، ومنا من يحلم برحلة، أو بعمل ونجاح ونشاط ما، أو ببلاد بعيدة، أو بأزمان مضت أو لم تأت بعد، ومنا من يهاجر في خياله إلى كواكب جديدة يكتشفها، ومنا من يحلم بالخلود، بالجنة والملائكة والعرش.. أنت وما تتطلع إليه نفسك، وأنت ما تتخيله من ذروة السعادة.

وفي المنام، تعيش حياة كاملة مجبر أنت عليها، تسير في طرق وتقابل أناسا وتفعل ما لم تقترفه يداك ويأتيك أحب الناس كأبغضهم والطيبون كأشرار قتلة، تلتقي من غيب الموت أرواحهم وتاقت لهم نفسك أو ترى أنك مع أحب الناس إليك، ربما يضيء وجهك النظر إلى الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، أو إلى أحد الأنبياء أو الملائكة أو ترى عجبا عصيا على الوصف.. ترى ما تراه، ويترك أثره على نفسك رغما عنك، كأنك عشته تماما.

اللهاث الذي نصحو عليه أحيانا، كأننا كنا نجري فعلا في الواقع، أو الكلام

الذي نكمله فيما نفتح أعيننا على ضوء اليقظة، والمذاق الذي نجده في ريقنا لما تناولناه في المنام، أو الرائحة، بل الحزن والألم والخوف أو البهجة والاطمئنان والانتشاء الذي تستغرق فيه نفوسنا ويستمر لما بعد الصحو.. كل ذلك يقول إن الحلم ليس على هامش الحياة تماما، بل له فينا نصيب ليس بالقليل، ربما الفارق أنه لا يشاركنا فيه الآخرون، لا يدركونه معنا، ولا يصحبوننا فيه.

قد يصحبنا آخرون في أحلام اليقظة، نتبادل الخيال والطموح ونكمل خطوات للمستقبل نرنو إليها، نضيف ونحذف ونعدل، نحاول الاقتراب من الانفعال المصاحب لكل مشهد، هنا فرحة وهنا انتشاء بنجاح أو انتصار وهنا خوف نتوقاه ونتخذ حياله حذرنا، في الواقع، وهنا قرار لابد أن نتخذه بعدما تصورنا البدائل.. حلم اليقظة جزء من الوعي، من التخطيط للمستقبل والترتيب للحياة الواقعية، نتحكم فيه بإرادة كاملة، لكنه ينبني على خبراتنا الفعلية التي اكتسبناها من الواقع؛ بعكس أحلام النوم، التي تضيف إلينا خبرات جديدة، وتنقلنا إلى مناطق شعورية ربما لم نذقها في الواقع، وتحملنا إلى حيث أريد بنا ولنا، بغير إرادة منا.

أحيانا.. نجد في أنفسنا ألفة تجاه مكان ما، لم نزره أبدا، أو شخص ما، لم

نلتقه قط، لكن لنا معه ذكريات في المنام، ربما لا يدري هو عنها شيئا على

الإطلاق!

الحلم.. هو جزء خاص جدا من عمرك، العمر المتواري، العمر الذي لا يورثك شيبا ولا يقطف من ثمارك ولا يشاركك فيه أحد، لكنك تعيشه، بكل ما فيك، وتجد أثره، على مشاعرك وخيالك ويزيد في خبراتك الانفعالية، كرصيد غير مخصوم من الحياة.. كعمر مواز.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top