نهى البلك تكتب: الأبيض.. لون أدوار البطولة

ارتديت الأبيض أخيرا.. بعد سنوات طوال من رفضه.. كنت أرتدي اللون الأبيض كثيرا في طفولتي، حتى ارتبط في ذهني بالصغر، بالحياد، برغم تميز القطع البيضاء تلك، كالفساتين الخاصة بالمناسبات، التي أحتفل فيها بعيد ميلادي، أو أذهب بها إلى أفراح العائلة والأصدقاء، لأشاهد العروس في ثوبها الأبيض أيضا، هو لون أيام البهجة والفرح المميز، ولون أدوار البطولة إذاً، العروس وصاحبة العيد؛ لكن ظل هذا استثناء، أفصله في خيالي عن تعريفي للون الأبيض.

أيامها – وإلى وقت قريب – كانت المستشفيات هي المعادل المكاني للون

الأبيض، الجدران والأسرة وفرشها والستائر وملابس الممرضات والأطباء، وحتى الأدوات، غالبيتها بنفس اللون.. الصافي، الموحي بالنقاء والسكينة.

كان هذا هو الدافع في البداية وراء سكب اللون الأبيض على المستشفيات والعيادات، إضفاء الشعور بالراحة والصفاء والسلام على المعالَجين، لكن مع الاعتياد والربط الذهني وتفاعل الحواس، صار الحال معكوسا، فارتبط اللون بالمكان بكل تفاصيله، برائحة الدواء وطلة العاملين ووقع الأقدام على أرضيته.

الأبيض كان اللون المميز لحفاضات صغار العائلة، وقمصان المدرسة، والملابس الرياضية.. أشياء نمطية كلها، مرتبط أغلبها بشعور بالإعياء والإجهاد والفرض -الإجبار-، فضلًا عن حياد الكائن الطفل وفراغه من الخبرة الإنسانية، وأنا أشب عن الطفولة وأسعى لإيجاد نفسي في الألوان.

حين بدأت مراحل جديدة من عمري ومن مجالات الحياة، بدأت أتجنب، بإصرار، ارتداء اللون الأبيض.

كذلك الكحلي، ظل غير محسوب من الألوان بالنسبة لي إذا ما فكرت في شراء ملابس جديدة؛ فالكحلي هو لون الزي المدرسي لي منذ الطفولة وإلى الثانوية العامة.. الكحلي لون الدراسة، لون الوقار والالتزام والحرم المدرسي.. كيف أرتديه في النادي أو في المصيف أو حتى في الطريق أيام الإجازات؟ لا يليق به!

الأسود لم يكن في خريطتي الصغيرة، كان محذوفا من عالمي.. بدأت أعيه مع وفاة أحد شباب العائلة، واعتيادي على رؤية والدته، السيدة الكبيرة الأنيقة، مرتدية ملابس سوداء شديدة الرقي والتناسق.. كان الأسود لون الحزن، لكنه ليس لون الكآبة، حزن أنيق، الأسود لون الكبار.

مع بداية تعرفي على الألوان كانت دلالتها مجردة، مجرد تمييز لاختلاف كل منها عن الآخر، مع حفظ أسمائها؛ وكنت مع الأيام أتعرف على تفاصيل أكثر في الحياة، كل تفصيلة لها لونها، وكل لون يشبه في مخيلتي ما دلني عليه؛ مثلا، ألوان الفاكهة، الأحمر لون الصيف والمرح والإجازات، لون الفراولة والتفاح وشرائح البطيخ المثلج، والأصفر الفاتح شهي كالموز، بعكس البرتقالي اللاذع والماسخ أحيانا!

تبدَّل الآن ذوقي في الألوان، كما تبدلت ذائفتي في الفاكهة.. تتبدل أحاسيسنا تجاه الأشياء بقدر ما تتغير معرفتنا بها، بحسب ما تقدمها لنا الحياة أو بحسب ما نسعى نحن لاكتشافها من جديد.

لم يعد لون ملابس المناسبات هو الأبيض، بل تحول إلى الأسود اللامع أو المطعم بالفصوص الرقيقة ذهبية أو فضية.. لم يعد الأسود هو لون الحزن إذا، ولا لون النضج ولا حكرا على \”الكبار\”.

تحرص الفتيات، أو أغلبهن، على ارتداء الأسود في المناسبات الخاصة، شريطة ألا تكون هي \”البطلة\”! فالبطلة ترتدي الأبيض، والمدعوات يرتدين الأسود.. لم أكن أعي وقتها أن البطولة في المناسبات الحزينة للأبيض أيضا، وأن نصيب المدعوين هنا كذلك، هو الأسود!

في مخيلتي الصغيرة كان للألوان تصنيف ثابت، هذا لون جميل وذاك لون غير جميل، الأمر كان مرتبطا بالخبرة الأولى باللون، بداية تعرفي على اللونين الأخضر والبنفسجي كانت من خلال أشياء غير جميلة، لا أذكر ماهيتها تحديدا، ربما ملابس متدنية الذوق، أراها على الآخرين فلا تعجبني، أو ربما قطع أثاث، أو صور أو غيرها، فارتبط في ذهني أن هذين اللونين قبيحان.

نحن نتعلم الأشياء بحسب ما نعتادها.. كان هناك أطعمة معينة لا تطبخ في

بيتنا، لا يحبها الكبار وبالتالي لا يقدمونها إلينا، لازلت أشعر بغربة ما تجاه تلك الأطعمة، كالقلقاس والسبانخ! كذلك الألوان.. ولم يكن البنفسجي من الألوان المتداولة قريبا من بصري، ولا الأخضر إلا قليلا.

لكن خبراتي المتجددة، وأنا أكبر كل يوم، قدمت إلىَّ اللونين نفسيهما في صورة أجمل، في ملابس أناس آخرين، في أفلام كارتون وقصص مصورة، وفي أثاثات وستائر وألعاب صغيرة، في تفاصيل الحياة رأيت أخضر جميلا وبنفسجيا جذابا.. بدأت عيوني تدرك تدرجاتهما المختلفة، ليس الدرجات فقط، بل الخامة التي يقدمان من خلالها تؤثر أيضا، هناك درجات وتكوينات وخامات يكون فيها الأخضر والبنفسجي أجمل، وهناك أوقات نرى فيها الألوان بشكل مختلف، ومعرفتنا الأولى بالأشياء ليست دائما صحيحة، ولا مكتملة.. هناك لحظة تفرق في وعينا، هناك خبرات تجعلنا ندرك أن المسمى الواحد قد لا يعني أبدا شيئا واحدا.. أن اللون له ألف درجة، وألف طريقة تقديم، وانعكاسات في العيون بعدد البشر.

الأخضر هو لون الحياة، يقولون، لون الخصب والوعد بالغد.. والبنفسجي لون الشجن والغموض، ربما!

الأبيض كان لون اللبن الذي لم أكن أحبه أبدا وكنت أتجرعه مجبرة، الآن أنا أحب طعم اللبن، أشتهيه، وارتدي الأبيض كلون له معنى، ليس محايدا ولا صامتا كما كان في السابق يوحي إلى.. ولا الأسود عاد لون الحضور الأنثوي في المناسبات، كما لم يعد لون الحزن والكبر، هو لون ممتلئ بالكلام، لون الحكايات.

لكنني الآن لم أعد أفضل الفصل المتعسف بين هذين اللونين البراقين؛ بل أجدهما أجمل حين يمتزجان.. أن ترتدي الأبيض مع الأسود ليظهر جمال الضد بالضد.. كعين حوراء ساهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top