ننشر فصلا من رواية "عطارد" لـ محمد ربيع.. المرشحة لجائزة البوكر

تبادلنا تدخين السيجارة، أنهيناها نحن الخمسة في أقلَّ من دقيقة، نصيب كلّ واحد نَفَسَين فقط، انتهت بسرعة وأشعلنا واحدةً أخرى. الحشيش كالمعتاد نظيفٌ تمامًا، غيرُ مخلوط بأشياءَ أخرى، لم تترك قطعة الحشيش أثرًا في الورق أثناء تقطيعها وفركها، تفتَّت بين أصابعي بسهولة، رائحتها نفَّاذة، تمامًا كما وصف لي الزميلُ في مكافحة المخدِّرات الحشيشَ النظيفَ في الثمانينات. حكى لي ما كان يحدث عادةً في أثناء مداهمة القوّة الأمنية لأماكن تخزين الحشيش، كنَّا، أنا وهو، جالسَين باسترخاء في كمين في شارع قصر العيني، السيّارات قليلة جدًّا، ومرَّ بجانبنا رجلٌ يُشعل سيجارةَ حشيش عرفناها من رائحتها، ضحك الزميل وقال: «كنَّا نعرف أنّ المبنى يحوي مخزنًا للحشيش بمجرَّد التوقُّف أمامه، نمشي في الشارع لتضربنا الرائحة المتسلِّلة من الأبواب والنوافذ، حتّى إذا وصلنا إلى البيت عرفناه على الفور. ومهما فعل الخازن أو التاجر، فلم يتمكّن أحدُهم قطّ من حجب الرائحة. كنَّا نبتسم وتهدأ أعصابنا حينما نشمُّ الرائحة القوية، وما يتبقَّى بعد ذلك مجهودٌ يقوم به الجنود والأمناء، يبحثون عن غرف وخزائنَ خفِيّة، يبحثون في البدروم، وربّما اضطّرُّوا لحفر أجزاء منه لإخراج الحشيش، نعم، لم يكن التراب المهال على الحشيش يمنع انبعاث الرائحة. بعد ذلك اضطُّرَّ التجَّار لخلطه بأشياءَ كثيرة أرخص؛ ليزيد ربحُهم أوّلًا، ولتختفيَ الرائحة ثانيًا».

أنا لا أعرفهم، هؤلاء الأربعة، تورَّطتُ معهم ولا مفرَّ من مشاركتهم قطعةَ الحشيش، كنَّا نتمركزُ في إحدى غرف الطابق قبل الأخير من برج القاهرة، بعد ساعات سننهي تمركزًا استمرّ مدَّة طويلة في البرج؛ سنتين كاملتين. كنَّا مركز مراقبة متقدِّم، عين المقاومة التي تراقب القاهرة الشرقية، أداة إعدام واغتيال وقنص، كنَّا ذراع المقاومة الطويلة، وكنتُ أنا، العقيد أحمد عطارد، قائد القوّة الذي استمرّ صامدًا كلّ هذه المدّة. حتّى عندما انهار الضبَّاط واحدًا تلو الآخر من شدّة الضغط النفسي، حتّى عندما انتحر ثلاثة منهم في يوم واحد، لم تتحرَّك شعرة في رأسي، وأرسلتُ إلى قيادة المقاومة أطلب قنّاصين آخرين وقوّة لتستلم الجثث. وحينما كانت القوّة تتحرَّك من القاهرة الغربية قادمة إلى البرج كنت أكتب تقريري الخاصّ بانتحار الزملاء، وأُرجع الانتحار
إلى ضغوط العمل، وإلى النجاح الباهر في قنص الأهداف، وإلى انعدام التربية النفسية للضبّاط، وإلى الوَحدة والعزلة، وإلى أشياءَ أخرى كثيرة.

بعد ذلك كنتُ أُسرِّح الضبّاط بعد مرور ثلاثة أشهرٍ أو أربعة على بقائهم في البرج، وبهذا حافظت على مستوى متوسِّط الكفاءة لمركزنا هنا، وحافظتُ بالتأكيد على أرواح الضبّاط. كنتُ قد أدركت أنَّ كلّ مَن يبقى في البرج يسير في طريق الانهيار العصبيِّ ببطء، وكلَّ ما ذكرته في التقرير كان سببًا حقيقيًّا للانهيار، في النهاية ومهما كان الضابط مؤمِنًا بأهمّية عمله، فإنَّ قتلَ إنسانٍ لا يعرفه أمرٌ هائل، أنا قنَّاص وأعرف ذلك، وأعرف أنّ صور القتلى تبقى ماثلةً في الذهن مدَّة طويلة. وأنّ الذاكرة الانتقائية تختار صورًا بعينها للاحتفاظ بها إلى الأبد. حتّى ذاكرتي، أنا القنَّاص المحترف، تحتفظُ بصور لأشخاص قنصتُهم ولا أعرف مَن هم، ولا أذكر أين كنتُ أو أين كانوا، ولا أذكر متى حدث هذا أو كيف أتاني الأمر بقنصهم. وهناك بالطبع صورة الجثث الثلاث المتكوِّمة بعضها فوق بعضٍ والمأخوذة في إطار المِنظار الدائري، هذه ثابتة في ذهني لن تُمحى مطلقًا إلى أن أموت، فكيف بقنّاصة هُواة كهؤلاء. لولا الحماسة النابعة من الروح الوطنية، لما كان لمجموعة البرج أيُّ نجاح.

كان اسمُنا الرسميُّ «مجموعة البرج» وهو ما لن يجده أحد مكتوبًا في وثيقة أبدًا، ثم انتشر اسم «الدبابير» بين الناس، وتحوَّل إلى اسمٍ حَرَكيٍّ لنا، في الحقيقة لم يعرف أحدٌ بوجودنا على الإطلاق، لكنّ الناس علموا أنّ هناك الكثيرَ من القنّاصة منتشرين في الشوارع وعلى أسطح المنازل والمباني العالية، كان أثرُنا واضحًا، ضابط يسير في الشارع فيسقط دونَ مُقدِّمات، جندي يجلس على مقهى ثم يتناثر مخُّه فوق طاولاتِ القاعدين بقربه. وهكذا خلط الناس بين مجموعة البرج والقنَّاصة المنتشرين في كلِّ أحياء القاهرة الشرقية، كنَّا جميعًا دبابيرَ بالنسبة إليهم. وبالتأكيد لم يخطر في بال أحدٍ أنّنا نتمركز هنا في برج القاهرة، أبعد نقطة عن كلّ شيء، نستخدم أقصى مدى للبندقية وللمنظار، لا أحدَ يرانا ولا أحدَ يسمعنا، ومع كواتم الصوت كنَّا ملائكةَ موتٍ.

في البداية ظننتُ أنّ البرج يحوي ستةَ عشرَ طابقًا فعلًا، لكن مع مرور الوقت وكثرة الصعود والهبوط في المصعد يُدرك الواحد أنّ مساحة البرج محدودة جدًّا، هذا هيكلٌ هائلُ الحجم ولا يحوي إلا طابقين فقط، مع ذلك يسمُّونهما الطابق الخامسَ عشرَ والسادسَ عشرَ. وفوق هذا الأخير شرفةٌ ضيِّقةٌ جدًّا في منتصفها العمود الهائل الحجم، يظهر للناظر من أماكنَ كثيرة في المدينة.

صعدتُ إلى الطابق السادسَ عشرَ، حيث الشرفةُ الدائرية الضخمة تطلُّ على القاهرة كلِّها، كنتُ أتطلَّعُ إلى القاهرة الشرقية على ارتفاع مئة وثمانين مترًا تقريبًا. ظهرت المباني الشهيرة وكأنّها أقوى من الناس ومن الزمن، أقوى من أيِّ شيء، حتّى لو كان الواحد معماريًّا متسامحًا مع الطرز الحديثة فسيرى قبحًا تمّ التعوّد عليه بطول المعاشرة، وربّما كان قبحُها هذا هو سبب بقائها هكذا حيّةً على الرغم من موت الكثيرين. مبنى ماسبيرو مثلًا لا يجوز أن يستمرَّ هكذا، هو رجلٌ بمؤخِّرة ضخمة وردفَين هائلين، يتربَّع على الأرض بينما ينتصب رأسه وصدره في الهواء نحيفين جدًّا، بوذا مستنير في حالة انتصاب، بوذا مشوَّه. وإلى الشَّمال مبنى وزارة الخارجية، رجلٌ أوربِّي طويل القامة يرتدي عمامة شرقية، يفخر بها ويرتفع فوق الجميع، وخلفه كتلٌ عديدةٌ متشابكةٌ من المباني الصغيرة، لا يضمُّها طراز معماري أو نسق أو حتّى مقاييس موحَّدة، وتقطعها شوارعُ غيرُ مستقيمة، يتغيَّر عرضُها كلّ مئة مترٍ، كانت منطقة بولاق أبو العلا فوضويةً تليق بشغب طفليّ ثار منذ سنوات في المنطقة نفسها. ومبنى المتحف المصري مجموعة من الكسالى الهرِمين، قاعدون على الأرض يتبادلون حديثًا بصوت خفيض، ساكنون منذ دهور طويلة، لا يتحرَّكون إلا لشرب الشاي ويختبئون من أعين الجميع كارهين تاريخهم الزائف. وركام مبنى فندق هيلتون النيل المهجور الذي تهدَّم مع بداية الاحتلال سائح أمريكي سكران سقط على الأرض ولا يدرك شيئًا ممّا حوله، جاء إلى القاهرة ليبحث عن الجمال في قطع الخراء المحيطة به، بحث كثيرًا ولم يجد شيئًا، ومع ذلك لا يعترف بأنّها قطعة خراء لا تحوي جمالًا أبدًا، بل يلومُ نفسَه؛ لأنّه لم يجد الجوهرة المدفونة في الخراء. ومبنى فندق هيلتون رمسيس عاهرة هائلة الحجم، تطلّ على النيل وترحِّب بالجميع لكن لا أحدَ يقترب منها، وكالعاهرات تمامًا يُعرفن من أحذيتهنّ القديمة المهترئة المتّسخة، وكأنّهن اتّفقنَ على أن تكونَ كلُّ أحذيتِهنّ كذلك، فوضى الشارع والباعة عند فندق هيلتون رمسيس هي حذاؤه القديم. وتقاطع كوبري قصر النيل مع الكورنيش متاهة غيرُ مفهومة، ونسخةٌ أكثر تعقيدًا من رفيقه تقاطع كوبري  أكتوبر مع الكورنيش، ثم فندق سميراميس؛ رجلٌ وزوجته وطفلهما، والرجل قد تبوَّل تحت قدميه ولا يزال واقفًا مكانه، لا يتحرَّك مبتعدًا عن بقعة البول ولا يسمح لعائلته بالحركة. ومجمَّع التحرير يظهر جانبه الأيسر حاملًا كلّ أسباب أمراض المصريين، لا يريني إلا جانبًا منه لأنّه يعلمُ أنّي أهابُ صدرَه ورأسَه وبطنَه والانبعاج الواسع فيه. وقبله مبنى الجامعة العربية المتهدِّم، الركام المجيد، الأطلال الشامخة، كشف تهدّمه أخيرًا عن ميدان التحرير بالكامل، كان هو الحاجز الوحيد بيننا وبينه. انهار بعد يوم واحد من انهيار مبنى فندق هيلتون النيل، لكن على العكس من مبنى الفندق الذي مال وسقط على جانبه دون أن يتحطّم، انهار مبنى جامعة الدول العربية بالكامل، تاركًا كومةً عاليةً من الركام.

لا شيء سوى الفوضى، أبحثُ عن نظامٍ وسط كلّ هذا، لكن يبدو أنّ مَن بنى القاهرة لم ينظر لها من بعيد، لم ينظر إلى الصورة كاملة، بل تأمَّل المبانيَ منفردةً يحيط بها الفراغ، وصمَّم كلَّ مبنى على انفراد، دونَ أن يشغلَ باله بما يحيطه من مبانٍ أخرى. ورآها بعين الماشي على الأرض لا بعين الطائر في السماء، أراد أن يبهرَ الناس في عصر ما قبل الكاميرات المحمولة جوًّا، وفعل مثله من جاء بعده وأكمل البناء، وفعل مثلهما كلُّ مَن جاء بعدهما. هل سأعيش لأراها تُهدم؟

كنتُ رفيقَ هذا المشهد سنتين كاملتين، واليوم أتركه.

في البداية، قسَّمنا مساحة المطعم القديم في الطابق الخامسَ عشرَ إلى عدَّة غُرف، استخدمنا ألواحًا خشبية خفيفة كفواصلَ، وتركنا السلَّم المُفضي إلى الطابق الأخير من البرج مفتوحًا للجميع، كي يتمكَّن أيّ من الضبّاط من الصعود إلى هناك في حالات الطوارئ. يحتلّ كلَّ غرفة قنَّاصٌ، فيها يعيش وينام، وفي موعد ورديّته يصعد إلى الطابق الأخير ليتابع ما يحدث في القاهرة الشرقية. ومع مرور الوقت كان عدد الضبّاط يقلّ ويزيد بحسب الوضع المحيط بنا، وبحسب حاجة القاهرة الشرقية إلى مجموعة البرج، مهمّتنا: «الحفاظ على ما حولنا». كنتُ دائمًا سعيدًا بالتوصيف المطّاط لمَهمّتنا. كالعادة، التوصيفات المطّاطة تلك تمنحنا حرِّيَّة التصرُّف في المواقف الحَرِجة، ولو أنّ طبيعة عملنا تتعدَّى الحدودَ المعتادة لتصلَ إلى القتل الصريح. عملي محضُ اجتهاد، لا خطّة جاهزة لأطبِّقها، فقط أتفاعل مع ما يحدث، ولا أنتظر سوى الأوامر التي تكون محدَّدة جدًّا، أمرٍ باغتيال فلان الذي سيمرُّ بطريق الكورنيش، أمرٍ باغتيال خمسة من ضبّاط الاحتلال، عشوائيّا، خلال الشهر القادم، أو حتّى أوامر باغتيال ضبّاط الشرطة المصرية والمواطنين المَدَنيّين المتعاونين مع الاحتلال، وبالطبع مهمّتنا الدائمة، التحديق عبرَ المناظير إلى القاهرة الشرقية لرصد أيّ تحرُّك مريب. كما ذكرتُ، كنَّا مركزًا للاغتيالات ومركز مراقبة متقدِّمًا.

غبارٌ كثيفٌ غطّى القاهرة، خليطٌ من عوادم السيّارات والضباب الذي لا أعرف سببه، وربّما دخان حريق مخَلّفات زراعية يأتينا من القرى والمدن المحيطة بنا، كلّ هذا يتجمَّع كلَّ عدّة أسابيع ليكوِّن ستارًا يحجب مبانيَ القاهرة البعيدة عن كلّ عين في السماء، ستارًا كالذي أخلقه كي يحميَني من الفضول، وكقناعي الذي أرتديه حينما أصوِّب على الأهداف.

مع كلّ صباح يُمسك كلُّ واحد بندقيّته ويضبط مِنظاره، ويتّخذ موقعه بطريقته المفضّلة، قاعدًا على الأرض تستند بندقيّته إلى ركبته، أو إلى حامل ذي ذراعين رفيعتين. بينما أصعد أنا إلى الطابق الأخير، حيث الشرفة التي تستدير مع استدارة مبنى البرج، لتكشفَ القاهرة كلّها، أدور دَورَتين لأرى كلَّ المباني والشوارع واضحةً أمامي بلا سواترَ من حجر أو زجاج. القاهرة الشرقيّة بمبانيها الشهيرة تحت الاحتلال، والقاهرة الغربيّة بمبانيها المجهولة محرَّرة وتحت سيطرة المصريين تمامًا. قليلٌ منها تهدَّم جرَّاء القصف. كنتُ كلَّما صعدتُ إلى الشرفة، زالت الحُجُب، وأصبحتِ القاهرة مكانًا أكثر انفتاحًا.

أنا أعلاهم رتبة، قائدُ التشكيل الذي يحمل بندقية مثلهم تمامًا، لا أتلقَّى الأوامر من قائدٍ آخر، وإنّما حرِّيَّة التصرّف متاحة لي حسبما يقتضي الموقف، إلَّا في حالات معدودة كلّ شهر، لذلك لا أنظر من خلال منظاري كثيرًا، فقط أرفع البندقية كلَّما مللتُ النظر إلى الصورة كاملة، لأرى أجزاء صغيرة من خلال المنظار. لم يطلق أيّ منَّا رَصاصة واحدة منذ ما يقرب من شهر، استقرَّتِ الأمورُ وعادتِ الحياةُ، وكأنّ شيئًا لم يكن. وفي الأسبوع الماضي أتتني رسالةٌ تحوي أمرًا بإخلاء الموقع اليوم. وأخذنا نعدُّ العُدّة طوال الأسبوع، حتّى إنّنا لم نقف في أماكن المراقبة بجدّيتنا المعتادة، كنّا نقضي أيّامنا الأخيرة في البرج قبل الرحيل. إلى أين، ما المَهمّة القادمة؟ لا أعلم.

اقتربتُ من حافّة الشرفة واستندتُ إلى السور الحديدي الذي يرتفع فوق قامتي، أواجه القاهرة الشرقية. من مِنظار البندقية رأيتُ القوارب الحربيّة الخمسة تصطفُّ أمامي مباشرة، أستطيع أن أرى البحّارة يتحرَّكون فوق السطح، كسالى وكأنّ لا شيء يَعنيهم، وكأنّهم ليسوا في ورطة مثلنا تمامًا، الفرقة الصغيرة في منتصف مجرى النيل ليست فرقة حراسة، بل هي استعراض صارخ للقوَّة، يراها المارّ على الكورنيش. ولا يعبر أحدٌ على كوبري أكتوبر إلّا ويثبِّتُ عينيه عليهم. هم لا يحدثون أيّ ضررٍ حقيقي الآن كما فعلوا في الأيّام الأولى، هم أيضًا لا يمنعون أيّ ضرر، ولم يفكِّر واحد من المصريّين في مهاجمتهم. هؤلاء أصنامُ المحتلّ الصامدة. هم لا يعلمون أين موقعنا لكنّهم يعلمون أنّنا نراهم، أنّنا نراقبهم، نتابعهم من خلال مناظيرنا، يعلمون أنّنا قمنا بتنفيذ ضربات موجعة لزملائهم. قد نكون في البرج، في مبنى من مباني الزمالك العديدة، أو حتّى على الشاطئ الغربيّ للنيل، أو ربّما فوق سطح مبنى من مباني القاهرة الشرقيّة التي يحتلونها، نحن أشباحٌ بالنسبة لهم.

هذه المرّة الأولى التي أقف فيها منتصبًا تمامًا في نور الشمس مواجهًا القاهرة الشرقيّة، نحن بعيدون عن أيِّ عين بشرية، لكنّنا لسنا بعيدين عن عين تبحث عنَّا بمنظار. لم نكن نقف لنحدِّق بلا مناظير في المدينة إلا ليلًا، عدسات المناظير قد تعكس النور، ومهمّات الاغتيال كانت تُنجز في دقائقَ قليلة، غيرِ كافية لكشف مكاننا. بينما مهمّة المراقبة كانت تتمّ من خلال الطابق السفلي، حيث كان المطعم الدوّار قبل الاحتلال. الزجاج المحيط بالطابق يكسر شعاع النور، ويحمي عدسات مناظيرنا من الأعين. أتذكَّر مدى التعقيد الذي وصلنا إليه في الأسابيع الأخيرة، كنتُ أطوِّر النظام كلّ يوم بغرض الحفاظ على مكاننا سِرِّيًّا عَصِيًّا على الكشف، وهو ما حدث فعلًا.

أذكر يومي الأوّل هنا، وصلتُ ليلًا إلى البرج، وتجوّلتُ قليلًا أمام مدخله الفخم ناظرًا إلى النَّسر الهائل الحجم فوقه. ثم دخلت المصعد، ولم أستغرق إلّا ثواني قليلةً حتّى وصلتُ إلى الطابق الخامسَ عشرَ. ثم صعدتُ إلى الطابق الأخير وتطلَّعتُ بلهفة عبر الزجاج إلى القوارب الخمسة في النيل، ملأتني الحماسة، وأخرجت منظاري وتفحَّصتُ كلّ قارب. كنتُ أكسر الكثير من القواعد بأفعالي تلك، وأعرِّض الموقع المختار بل المَهمّة كلّها إلى الخطر. في اليوم التالي ومع وصول الرسول يحمل الطعام والرسالة الأولى، أعطيته رسالة أطلب فيها الإذن بتدمير القوارب الخمسة. ولا بدّ أنّ ما كتبته كان انفعاليًّا لأقصى حدّ، فقد أتاني في اليوم التالي أحدُ ضبّاط المقاومة برتبة عميد، وتكلَّم معي كثيرًا عن أهمّية الموقع وأهمّية الحفاظ عليه بعيدًا عن الأعين. قال لي إنّ جزيرة الزمالك خالية بالكامل. لا سكّانَ فيها ولا مواطنين، هجرها الناس منذ مدّة خوفًا من القصف العنيف الذي أشعل الشوارع والحدائق الواسعة، لم يتبقَّ فيها إلّا عددٌ قليل من أفراد المقاومة، وكَشْفُ مكان البرج سهلٌ للغاية؛ تكفي رَصاصة تنطلق في توقيت خاطئ، أو انعكاس ضوء على عدسة المِنظار، أو ظهور واحد منَّا في الشرفة واضحًا للعِيان. قال لي إنّ أحدًا لن يتخيَّلَ أن تسيطرَ المقاومةُ على برج القاهرة وتحتفظ به كنقطة مراقبة وقنص متقدِّمة. طلب منِّي الاستعدادَ لمَهمَّات بالغة الصعوبة، وقال إنّ عليَّ الحفاظ على موقعي، بالذكاء وليس بالتهوّر.

مشيتُ في الشرفة حتّى وصلتُ إلى الجهة الأخرى، الجزء المطلّ على القاهرة الغربية، الجزءِ الشجاع الذي لم يستطع المحتلّ دخوله قطُّ. حسنًا، المحتلّ لم يحاول الدخول قطّ، مع ذلك الجيزة حصينة ولا يمكن لمحتلٍّ أن يدخلَها. كان هذا الجزءُ مهملًا تمامًا، لم نحاول مراقبةَ ما يحدث فيه قطّ، لم نحاول قنص أحدٍ يمشي هناك. بالطبع لم تكن الجهة الغربيّة من البرج صالحةً للظهور كالشرقيّة تمامًا، مَن يدري، فقد يكون هناك جواسيسُ في المنطقة المحرَّرة أيضًا.

ارتسمت نقطة ضوء حمراء على حائط الشرفة، تذبذبت بشدّة في كلّ الاتجاهات، مصدر شعاع الليزر بعيد جدًّا يضربه الهواءُ، لكنّه يقترب وسيكون هنا بعد دقيقة أو أقلَّ. صارت يدي ثابتة بعد عدّة طلقات، أذكر أنّ أوّل نقطة ليزر رأيتها من خلال مِنظاري كانت ترتجف بشدّة أيضًا، وبعد أيّام من التدريب صرت أمسك البندقية كأنّي أحمل طفلًا رضيعًا، وصارت النقطة أكثر ثباتًا على الهدف. وربّما لم تعد النقطة الحمراء المعتادة علامة على دقَّة تصويبي كما هو المعتاد، بل أصبحت إشارة للهدف نفسه، تُعلمه بقرب إصابته برصاصتي. لم أعد بحاجة إلى شعاع الليزر المنطلق موازيًا لماسورة البندقية مستقرًّا في مكان الإصابة بالتحديد. مع ذلك حافظت على استخدامه كإشارة أخيرة للهدف. أخذت النقطة الحمراء على الجدار تستقرُّ رويدًا رويدًا، نظرت إلى الأفق باحثًا عن مصدرها، لكنّه كان لا يزال بعيدًا جدًّا، وكلّ ما رأيته أثرُ الشعاع يأتي مهتزًّا اهتزازاتٍ طفيفة. بعد دقيقة كان مصدر الشعاع يقترب متهاديًا ويستقرّ على أرضية الشرفة أمامي.

هذا درون جديد، لم أرَ مثله من قبل! فتحت حجيرة الرسائل وتناولت المظروف الصغير الموضوع بعناية في داخلها. مرسل الرسائل حالم حقًّا، يرسل إليَّ بخطابات ورقية صغيرة محمولة على ماكينة طائرة تنفردُ بعقل خاصّ بها. هذا درون ذو خمس مراوح صغيرة، أخفّ وأصغر من الآخر ذي المراوح الأربع الذي كان يوصِّل الرسائل طوال المدّة السابقة، وبالإضافة إلى مدفع الليزر الصغير وحجيرة الرسائل والكاميرا التي تستقرّ تحت بطن الدرون، تحت قبّة زجاجية صغيرة تسمح بدوران الكاميرا في كلّ الاتجاهات. بالإضافة إلى كلّ هذا، هناك ماسورة دقيقة تظهر على يمين الكاميرا، فهمت من فوري أنّها جزء من سلاح ناريّ، وبقليل من التفحُّص اكتشفت أنّها تتّصل بمخزن يحوي أربع طلقاتٍ من عيار 9 ملم. لدينا الآن درون يحوي سلاحًا يطلق النار، وكاميرا تجسُّس، وحجيرة رسائل. هذه أداة مدمجة، تقتل وتوصل الرسائل وتتجسَّس.

تركتُ الدرون على الأرضية، وبعد ثوانٍ عادت مراوح الدرون إلى الدوران مصدرة أزيزًا منخفضًا، كلُعبة أطفال لا ضرر منها، تأرّجح فوق أرضية الشرفة قليلًا، ثم طار خارج نطاق الشرفة مبتعدًا عن البرج، صارت هذه الآلات رفيقَنا الصامت بعد عِدَّة شهور من الاستقرار في البرج.

فتحت المظروف لأجد خمس ورقات صغيرة، ورقة باسم كلّ واحد منَّا، فتحتُ الورقة التي تحمل اسمي، مكتوب فيها أنّي سأتحرَّك بعد ساعة، سأكون آخر مَن يغادر البرج، عليَّ التأكّد من استلام الجميع لأوامرهم، وعليَّ التأكّد من مغادرتهم البرجَ. ثم عليَّ التوجّه إلى القاهرة الشرقية، في تقاطع شارعَي رمسيس و26 يوليو، في تمام الساعة العاشرة صباحًا، سألتقي أحدَ أفراد المقاومة الذي سيدُلّني على الطريق بعد ذلك.

عدتُ إلى الطابق السفلي، وزَّعت الأوراق على أصحابها، ودَّعتهم، وطلبتُ منهم المغادرة فورًا.

المكان خالٍ إلّا منّي، وسيصبح خاليًا تمامًا بعد دقائق.

حملتُ بندقيتي في حقيبتها ونزلتُ إلى الطابق الأرضي، مع حقيبة تحوي ملابسَ قليلة وقناعي، وعلبَ سجائر، ومالًا قليلًا؛ جنيهاتٍ معدودةً، أمسكتُ بها في راحتي وأنا أتذكّر الملمس المعدِني الصُّلب البارد. ولا شيء غير ذلك، لا سلاح ولا بطاقة شخصية. لا شيء.

اخترت مكانًا بالقرب من أكبر شجرة أمام البرج، حفرت بجانبها حفرة مستطيلة صغيرة، ثم وضعتُ فيها حقيبة بندقية القنص، الحقيبة كافية لعزل البندقية عن الرطوبة والتراب لمدة طويلة، ثم ردمت ما تبقى من الحفرة بالتراب. البرج مكاني الآمن، ولا بد أني سأعود إليه يومًا، ويوم أعود يجب أن أجد سلاحي جاهزًا.

لم تكن هناك ممرَّاتٌ عديدة بين الزمالك والقاهرة الشرقية، فقط الكباري بين طرفي المدينة، هناك كوبري قصر النيل وكوبري أكتوبر وكوبري 15 مايو. هذه الكباري كانت الممرّات الوحيدة في ظلّ بقاء القوارب الحربيّة في النيل، وانعدام فرص التنقُّل بين الضِّفتَين عن طريقه. بالطبع كانت هناك نقاطُ تفتيشٍ عند كلّ كوبري، كنت أرى يوميًّا تجمهر العابرين من القاهرة الغربيّة إلى القاهرة الشرقيّة وبالعكس، يقفون صباحًا في طابور طويل ينتظرون السماح لهم بالمرور، من خلال منظاري كانت نقطة التفتيش الواقعة على كوبري أكتوبر مثيرةً للسخرية، يضيِّق الضبّاط وأمناء الشرطة الطريقَ قليلًا عن طريق الحواجز، يسمحون بمرور سيّارتين فقط، وعدد محدود من الناس من خلال بوّابة كشف المعادن. لا شيء جادّ في العملية برُمَّتها، كنت أرى الضابط قائد الكمين يجلس مسترخيًا تمامًا بجانب سيّارة الشرطة، والناس من حوله ينظرون إلى الأمام، إلى ما بعد نقاط التفتيش، يأملون في الوصول إلى القاهرة الشرقية، أو الغربية، في موعدهم. الناس هنا لا يزالون حريصين على عملهم. حتّى أنا حريص عليه، أطيع الأوامر وأستمع إلى شكاوَى الجميع وأنقلها بأمانة إلى القيادة أملًا في تحسُّن الأوضاع، وزوال الاحتلال.

أمشي بلا أحمالٍ تقريبًا، فقط حقيبتي الخفيفة وملابسي القليلة، أمشي خفيفًا لا تكاد قدماي تلمسان الأرض، للحظة شعرت بالراحة، بل وربّما ابتسمت، وحاولت تذكُّر آخر مرَّة أحسست فيها بالأمان، لكنّها كانت لحظة بعيدة جدًّا، غائمة لا أكاد أذكرها. مشيت شمالًا، موازيًا للنيل حيث سأجد مطلع كوبري أكتوبر بعد قليل.

انتشرتِ النباتات هنا، الجزيرة كلُّها صارت حديقة عشوائية، لا أعرف كيف انتشر كلّ هذا بلا ريّ أو عناية، أشجار ونباتات غير مشذَّبة، زهور كثيرة وفروع وسيقان أخذت تشقّ بلاط الأرصفة والأسفلت، لا يشوّهها منظر السيّارات المحطّمة والمحترقة الملقاة في كلّ مكان، تكمل كلّ هذه التفاصيل المشهد، سيّارات البشر مجد من حديد انتهى إلى الأبد وحلّ محلَّه مجدُ النباتات، المجدُ لما استمرّ حيًّا بعد القصف والحرق والتدمير، لما قاوم الفناء، وأصرَّ على النموّ مرَّة أخرى. طيور كثيرة بنت أعشاشها هنا، وكأنّنا كنَّا نمنعها من الحياة والاستقرار. في النهاية، حياتُنا المدنِيّة كمواطنين وسيرنا على هذه الأرض كانا عقبة في مسارِ حياة النباتات والطيور، بينما كان القصف رفيقًا بها فتعايشت مع الدَّانات الساقطة ورَصاصات الطرفَينِ المتقاتلَينِ.

وصلتُ أخيرًا إلى مطلع كوبري أكتوبر، ثمّ مشيتُ قليلًا حتّى وصلتُ إلى انعطافة الكوبري فوق النيل، هناك رأيتُ الكوّة الدائرية في جسم الكوبري، مدخل نفق يمتدّ بطول الكوبري وتعلوه السيّارات العابرة للنيل. صعدت السلّم الخشب المستند إلى الكوبري تحت الكوّة مباشرة، وقبل أن أعبر إلى الظلام تطلَّعت إلى الجزيرة الهادئة تمامًا خلفي، ربّما كنت آخر إنسان عليها الآن، وربّما كنتُ آخر مَن يعبر تلك الكوّة إلى بطن الكوبري.

عبرتُ إلى الظلام الكامل، وشعرتُ بأشخاص يقفون حولي صامتين ينتظرون كلمة منّي، ثم أشعل أحدهم مصباحًا كهربيًّا في يده. كان نور الغسق يأتي خفيفًا من الكوّة خلفي، ويُظهر هياكل أربعةِ أشخاصٍ أو خمسة.

محمد ربيع

الرواية صادرة عن: دار التنوير 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top