ما زلتُ ربَّ الأشياءِ المكسورة، والعناوين غير المكتملة، الذكريات الضائعة..
ملك التيه والأحلام الناقصة.
1
يمتد من أمامي شاطئ تخترق صفحته صخور مكسوة بشعب مرجانية، كرؤوس مقطوعة تطوف من حولها أسراب سمك فضية، تعكس أشعة شمس تتوسد السماء.
من حولي تتناثر أشلاء جثث منزوعة الرأس، جسد مصلوب محترق في المنتصف، ينهار الجسد رمادًا على الأرض، يتجمع الرماد مشكلا جسدًا لطفلة في الوضع الجنيني، تصرخ الطفلة صرخة قصيرة، تفتح عينيها، تتدحرج يسارًا ويمينًا، إلى أن تبدأ في الحبو، تتحرك في اتجاه البحر، يتحول حَبوُها إلى سير غير متوازن، إلى أن تقف على قدميها، مع ملامسة الماء للشاطئ.
تستمر الطفلة في النمو مع تقدمها في الماء، الذي كلما لامس جزءًا جديدًا منها، تنضج معه، إلى أن أصبحت امرأة مع وصول الماء إلى منتصفها، استدارت بنصفها العلوي إلى الشاطئ، مبتسمة لي، ترافقها أسماك ملونة مختلفة الحجم، تحوم حولها، مع تقدمها في الماء والعمر يبدأ شعرها في التحول إلى الفضي، مع تغطية الماء لنهديها، يزداد بياض شعرها، مع انحناء رأسها، إلى أن غُمِرَت تماما في الماء.
تنسحب الشمس مسرعة نحو الغرب، يسطع مع ذلك الغروب الكثير من الأقمار، تمتلئ السماء بها، تتوسط المسافات بين الأقمار ستائر من النجوم، تصل بين كل قمر وآخر، تتغير ألوان الأقمار إلى الأحمر، الأزرق، البنفسجي، ويظل قمر- هو الأبعد- على لونه الأبيض، الذي يبدأ في التحول تدريجيا إلى الرمادي.
تقترب الأقمار من سطح الأرض، تستمر في الاقتراب، إلى أن تصبح في مواجهتي، تتوقف للحظات، قبل أن تندفع جميعا، في سرعة فائقة تجاهي، وتتحد فيّ.
……………………..
2
تحرق أشعة الشمس جفنيَّ، أحاول أن أكمل إغماضهما، لكنني أفقد القدرة على المقاومة، أستيقظ متطلعًا حولي، أحملق في السقف، محاولًا استرجاع الحلم، أفشل، يتملكني أسى على ذاكرتي المشتتة، التي لا تستطيع تجميع حلم انتهي قبل ثوانٍ، أنهض، لكن يجذبني ثُقل رأسي إلى الأسفل، وينساب صوت موسيقى خفيض، يستثير خلايا عقلي المتعبة، والتي تحاول الانتباه بصعوبة.
يزداد الصدع القائم في رأسي، وتندفع منه جيوش نمل تنتشر بين خلاياه، تتصاعد دقات أقدامه الصغيرة، في طرقات جمجمتي، كدقات عقارب ساعة حائط معلقة خلف محاجر عيني.
أحبو مع النمل السائر في خطوات رتيبة، منظمة، أنهض لأتعثر في زجاجات بيرة متناثرة في الحجرة، أتسند على أرفف الكتب المعلقة على الحائط، محاولا الوصول إلى الحاسوب، أمسكت بالكرسي مترنحا، حاولت الصمود دون أن أفقد توازني الهش، ارتكزت على الكرسي إلى أن استويت عليه.
قمت بتشغيل الحاسوب، اعتقدت أن صوت بدء الجهاز في العمل، سيشتت الحركة الرتيبة للنمل، وتضطرب مساراته، ما يدفعه إلى السقوط في هاوية رأسي، والموت.، عندها سينتهي الدق الكامن خلف محجري عيني، وأرى.
ساد السكون قليلا، استطعت فتح عيني، لكن النمل لم ينتظر، فمع فتح الحدقتين على اتساعهما، انتشر الطنين خلف جبهتي، نبتت للنمل الساقط في هاوية عقلي أجنحة، على طنينه، تجول داخل جمجمتي بعفوية صديق اعتاد تدمير منزلك كنوع من الفكاهة.
تلمست أزرار الحاسوب، المغطاة بطبقات من الغبار الملتصق بها، طبعت على الغبار:
– عابر سبيل، يمضي من غربة يعرفها، إلى غربة يتمنى معرفتها، من الحياة إلى الموت إلى الحياة، محاولا كسر الدائرة.
منعني طنين النمل المجنح من استكمال كلماتي، اتحدت ذبذبات الطنين، مكونة صوتًا واحدًا…
– تمثيلية الانتحار دي بقت فارغة أوي، من يوم ما عشنا مع بعض، وانت بتكتب نفس الكلمتين، اللي بينتحر ما بيسيبش وراه أي حاجه، كل اللي بيفكر فيه ساعتها، إزاي يتخلى ويسيب الدنيا في سلام.
اتحد النمل المجنح وتحول إلى غيم متناثرة، تلتهم خلايا عقلي، أود أن أكتب كلمة وداع، لكن ثقل صوتها يزداد على صدري.
– كلمة وداع من مين لمين؟ مجرد ادعاء، حتى وانت بتموت، بتمثل، ومحتاج جمهور يصقف لك، أنت استهلكت كل حاجة، وداع، حب، افتقاد….
أتى الغيم على كل الخلايا، سبح داخل تجويف رأسي، أصبح يزاول مهنة الخلايا الملتهمة في التفكير، أصبحتُ غيمة.
حاولت النهوض، لكن غيمتي اصطدمت بالجدار الذي تشكل من صوتها، وأعادني مره أخرى إليها، إلى كلماتها.
– في لحظة الحقيقة، مش ح تفرق لك فكرة التخلي، ﻷنك أيقنت إنك والعالم من غير بعض أفضل، الوجود والعدم عندك ح يتساووا، مش ح تكون مضطر إنك تكتب أي رسائل تبرر موقفك، تعتذر، أو تطلب السماح ….
حاولت كأي غيمة، أن أمر من خلال كلماتها، أن أعبر، أتجاوزها، استرجعت كل إحباطي معها، مررت من الجدار وأكملت الكتابة، مُنهِيًا آخر جملي:
\”عابر سبيل، أجبِرَ على غربة، لم تكن يوما سبيله أو طريقا خُيَر أن يسلكه\”.
أنهيت الرسالة، متحيرًا بين تركها أو مسحها، تجمعت الغيوم خلف عيني، واخترقتها، منطلقة إلى باقي الغرفة، سقطت من على الكرسي، وتراصت حولي كلماتها، مكونة سور صوتي:
– بس ازاي ما تسيبش ورقة وداع، تحط فيها كل إشفاقك على ذاتك، وعلى عظمتك المهدرة؟! لازم رسالة للعالم يعرف منها أد إيه فقد واحد من عظمائه المجهولين.
لم أعد قادرًا على التركيز، فالغيوم الدخانية تغزو شُعَبي الهوائية بضراوة، مسحت كل ما خططته.
انسحبت الغيوم، واختفى الجدار، عادت إليَّ الرؤية، واستولى عليَّ الغضب.
بدأت في لعني ألف مرة على انصياعي لما قالته، وخضوعي لها حتى في آخر لحظاتي، كنت غاضبًا مني، قبل أن أكون غاضبا منها.
جلبت كرسيًا، وضعته في منتصف الصالة، أخذت في البحث عن الحبل الذي اشتريته بالأمس، لم أجده في الصالة، أو الغرف الأخرى، ازداد حنقي على نفسي، ولعنة الذاكرة التي بلوت بها، تمتمت لاعنا اليوم الذي ولدت فيه، وكل الأيام التي كان في وسعي فيها المغادرة، ولم أغادر وتشبثت بالوجود.
تعثرت وكدت أسقط، لكنني توازنت في اللحظة الأخيرة، وحولت السقوط إلى جلوس على المرتبة الممددة في منتصف الغرفة، حاولت أن أُهدئ قليلا من عصبيتي التي ازدادت وبلغت أوجها، تطلعت إلى الشمس التي تشرق من بين فتحات النافذة، تتبعت أشعتها إلى جوار الفراش، حيث الحبل موضوعا داخل كيس أبيض، امتلأتُ بالسخرية على ذاتي، ضحكت بارتياح بعد العثور على حبل نجاتي.
\”أنت شخص مضطرب، المفروض أعمل جدول بحالات جنابك المزاجية، عشان ما أجرحش مشاعرك النبيلة، ولا لحظات اكتئابك العميقة…\”.
حتى لحظات صفوي الأخيرة، تقلقها جملها، التي ما استطعت إخمادها داخلي، نهضت، اعتليت الكرسي، قمت بإنزال المروحة من الحلقة الحديدية المعلقة فيها إلى السقف، ومررت الحبل داخل الحلقة، حاولت أن أعقد عقدة المشنقة، لكنني دائما كنت فاشلًا تماما في ذلك، أحد أحلام طفولتي كان أن انتسب للكشافة، فقط كي استطيع إجادة العقد التي يصنعوها.
ربطت الحبل حول رأسي، أحكمت الخناق جيدًا، عَصفَت برأسي صورها، رغم كل غضبي، لكنني وددت لو اتصلت بها، وأخبرتها عما أفعل، اخبرها أنني أفتقدها، أني سأغادر، من دونها.
تولى جهازي العصبي مسؤولية انتشالي من رثاء النفس، كنت في بدايات بكائية على ذاتي، عندما دَفَعَتْ قدماي الكرسي، وتركتاني أحارب الألم الناتج عن التدلي من السقف.
استسلمت لخشونة الحبل، ولتكسر عظام رقبتي، لم أعانِ من نقص الهواء، كنت قادرًا على تحمله، وأعلم أني سأغادر نتيجة تحطم رقبتي قبل أن أحتاج إليه.
غبت عن الوعي تدريجيا، مع ذلك الغياب، انسابت داخلي صور من ذاكرتي.
فتاة صغيرة، تركض نحوي أثناء خروجنا المدرسة، محاولاتي المستميتة في الإفلات من يدها ونحن في طريقنا إلى المنزل، بيت قديم، انهارت أدواره العليا، في منتصفة نافذة خشبية متهالكة، تتكئ عليها عجوز، تنتظر عودتي، وأنا أحاول التخفي منها في الشارع كي لا تكتشفني، وأنجح في مفاجأتها،
حاولت أن أتعرف على وجهها، لكنني لم أعرف إن كانت أمي، أو جدتي، أعرف الملامح، لكنني ما عدت قادرًا على تذكرها.
أفقت على يد لامرأة عجوز، تحل عقدة المشنقة من حول رأسي، تمسك بيدي، وتمضي بي خارج المنزل، يتبعنا صوت موسيقى خفيض لجيمي موريسون، يخبرنا أن النهاية قد حلت، وأن الأوان قد حان، لتنطفئ الأنوار.