نـاهـد صـلاح تكتب: تور الله في برسيمه

(1)

رد سائق التاكسي \”الخمسيني\” على تليفونه بعنف:

كنتِ فين يا بهيمة؟ (نفهم من سياق الكلام والشتيمة أنه يتحدث لزوجته) اتأخرتي في الاتصال ليه؟

……

اخرسي خالص.. مش طايق أسمع صوتك، إديني البت أكلمها.

…..

أيوة يا ندى يا حبيبتي (نفهم من صوته المتحول إلى الحِنية أنه يتحدث لابنته).. خلصتوا ولا لسه؟

…..

طيب يا حبيبتي طمنوني لما تخلصوا وما تعمليش زي الجاموسة اللي معاكي.

يغلق سائق التاكسي وينظر في المرآة أمامه، كأنه يراقب وقع محادثته الهاتفية على رأسي، ودون أن أمنحه أي إشارة للتجاوب معه بأي حال من الأحوال، راح يشرح لي أن \”البهيمة.. الجاموسة\” هي فعلا زوجته التي لا تفهم أي شيء في الحياة، فهي – كما قال- تصحى من الفجر تطبخ وتكنس وتنظف البيت وتغسل هدوم العيال، لكن تعرف تعمل مشوار لوحدها أبداً.. تعرف كده لما اخرج تتصل بي وتطمن علي وتشوف \”التور\” اللي متجوزاه وبيلف في الساقية ليل نهار عامل إيه.. كويس ولا زي الزفت.. لكن مفيش فايدة يا مدام، وفهمتها أكتر من مرة ترد عليّ ردها \”المرزبة\”: أعمل أيه بس، ما انا غرقانة في هموم عيالك.. لا وبسلامتها تزعل لو بصيت لواحدة تانية برة!

فشلت في أن أقاطع السيد \”التور\” حتى يصمت وينهي كلامه عن السيدة \”الجاموسة\” زوجته، وأصبح هو مثل الشريط \”اللي سف\”، وأنا اتكعبلت في لفته.

(2)

\”تعالي أفتح لك التاروت\”.. همست لي السيدة نصف المصرية.. نصف التركية، ثم راحت تربت بيديها على رأسي وتقرأ المعوذتين.. فردت أوراق التاروت أمامنا وقالت اختاري ورقة، فاخترت واحدة مكتوبا عليها \”الحكمة\”، نظرت لي سيدة التاروت كثيراً، ثم قررت ألا تتوقف عن الكلام حتى إنني ظننت أنها عثرت على فرصتها في تجريب طريقة جديدة لتعذيبي، فانهالت علي بالنصائح عن مغزى التجارب التي نمر بها كبشر وكيف تكون وسيلتنا للوصول إلى بر الأمان، وأنه علي أن أكون أكثر حذراً وأكثر تعقلاً، وبينما ختمت كلامها قائلة: ربنا بيحرسك طول الوقت، فكوني أكثر حكمة والتزمي بالحلال هو طوق نجاتك، نادت علي الروائية التركية \”نازان\” بإنجليزيتها المرتبكة: تعالي يا \”نون\” إلى جواري.

\”نون\”! لم يناديني أحد من قبل بحرفي الأول.. حرفي الإشكالي الذي شاكسني طوال حياتي.. دائماً في آخر القوائم بسبب \”النون\”، دائماً أشعر بكامل النقصان بسبب \”النون\”.. النون هو أول حرف لأمي، فتيقنت منذ بدايات وعيي أنني ورثت تعاستها.

تحررني \”نازان\” من شرودي وتسألني: هل تعرفين أن حرف النون له مكانة خاصة عند قدماء المصريين؟ وكان رمزه الكتابي هو الماء الجاري وله معان كثيرة \” نهر، نيل، نعمة\”.. تحمست نازان أكثر وراحت تعدد معاني النون عند الأجداد الفراعنة، وتؤكد أن معظم اللغات اللاتينية رسمت حرف النون مستوحى من المصرية القديمة، فيما تدخل صديقي سليمان (التركي الأشهر في محيطي بالمناسبة) وقال: وأظن أنه حتى العربية اشتقت النون من الهيروغليفية.. النون في القرآن أيضاً له دلالات كثيرة، والنبي يونس لقبه \”ذا النون\”.

أصغى إليهما وأنا اتساءل كيف تحولت جلسة التاروت والتسلية إلى كل هذه الحكايات والبراهين حول حرف \”النون\”؟ وتحضر صورة حتحور إلهة العشق والرقص والموسيقى في التراث الفرعوني كما في رواية \”نون\” لسحر الموجي، وأتصورها وهي تتحرش بأبطال الرواية وتحرضهم طول الوقت على التمرد وكشف مناطق مضيئة بداخلهم والتخلص من تشويهات الروح التي صنعها المجتمع.

وكما يتقاطع في الرواية الحاضر مع الماضي، تشكلت جلستنا الاستثنائية هذه.. ضحك سليمان وهو يشاكسني كعادته، ويقول: هو حرف مقدس، يعني أنت مقدسة يا حتشبسوتة.. يعلو صوت نازان ضاحكاً: أنا أيضاً مقدسة لأن اسمي يبدأ بالنون، وابنتي نيل مقدسة لأنها تبدأ بالنون، وأمي نورهان مقدسة لأنها تبدأ بالنون.. يطلع صوتي بصعوبة وأنا أقول: وأمي نوال أيضاً مقدسة لأنها تبدأ بالنون.

(3)

يا نجم .. نورك ليه كدة بيرتجف؟

هو أنت قنديل زيت؟ أو تختلف؟!

أنا نجم عالي.. بس عالي قوي

وكل ما انظر تحت أخاف أنحدف

عجبي!

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top