نـاهـد صـلاح تكتب: اتدحرج واجري يا رمان

(1)

ويسألونك عن الطفولة، قل إنها لم تكن فطيرة الذرة والأرز المعمر والبطاطا المشوية التي كانت تعدها جدتي ولا فص البرتقالة ولا فلقة الرمانة، أو إيقاع الحنين الذي يَشْرَق بي كلما أبصرت شجرة الزنزلخت يقف عليها هدهد وغراب أمام بيتنا الكبير في قريتنا الصغيرة، وإنما هي أيضاً أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة يحملقان بي كلما اطفأت النور ويستدعيان كل رفاقهما من الجن والعفاريت والمخلوقات المشوهة في حكايات الطفولة السخية بهم والتي حملتها على كتفي طوال عمري، فلم أستطع أن أتنصل منها وإن صارت بالنسبة لي حائط الصد الذي حال بين تورطي في أي نوع من الشغف تجاه أفلام الزومبي والمستئذبين وكل أفلام الرعب الأمريكية، فهوليوود بكل جبروتها وكل مؤثراتها الصوتية لم تعن لي شيئاً يستحق المقارنة بالحضور المغناطيسي لحكايات أشعلت أدرينالين الخوف في طفولتنا لدرجة انقطاع الأنفاس، أما حكاية الشاطر حسن، فالزمن وحده كان كفيلاً بأن يبرهن لي أن الخيال هزمه الواقع بالضربة القاضية.

الآن، كل شيء مرئي: الضجر، وصوت الديك و\”الفرخة\” يتصارعان على ما لا أفهمه أبداً فوق سطح دارنا القديمة، والصمت المطبق في ليل البيوت بين رجال عادوا من رحلة الشقاء في الغيطان ونساء طحنتهم مهمتهم اليومية بين البيوت والغيطان، والذباب الذي يستولى على وجوه أطفال نصف عرايا يهرولون على بيوت المسيحيين عند عقد إكليل ما لأن تصوراتهم هيأت لهم أن صراخهم بالصلاة على النبي محمد يُفسد الإكليل، وطبق الكعك من جارتنا المسيحية الذي لم نتذوقه أبداً وكان دائماً غنيمة للطيور ولم أعرف أبداً مصير طبق كعكنا عند الجارة المسيحية، و.. أنا لم أسلم من أعين الفضوليين في مكاني الوسطي الذي لازمني حتى اليوم، فلا أنا الريفية التي ترتدي نفس ملابسهم وتتحدث نفس لكنتهم وموهبتهم في استعمال حريتهم في الخفاء، ولا أنا \”البندرية\” التي تتمتع بميزات ابنة المدينة والكهرباء التي لا تنقطع إلا قليلاً والعثور السهل على جريدة أو كتاب جديد، فلاحة على الخط الفاصل ولكن ملتزمة بقواعد أخلاق القرية عند الطائفتين (الفلاحين وأهل المدينة) وقواعد الصح والغلط، ولم أكن بالطبع أدرك حينذاك قاعدة أن كل شيء نسبي، الحرية الناقصة في مجتمع الخوف والوضعية المأزومة على كافة الأصعدة والتي تظهر في التفاوت الشديد في توصيل الخدمات التربوية والتعليمية بين أطفال البلد الواحد، ما يجعل الكلام عن الطموح كلاماً فارغاً وهو ما يذكرني بمقولة قديمة للدكتور فؤاد زكريا إنتقد فيها محاولة القفز علي مشكلات الواقع والتعلق بشعارات من الخارج بصرف النظر عن مدي ضرورتها الملحة والعاجلة في خدمة قضايا المجتمع حيث قال: ليس من الصحيح أن نفكر في الصعود إلي القمر في الوقت الذي نعجز فيه عن حل مشكلة تكدس القمامة في شوارعنا.

(2)

البنت الصغيرة التي وقفت في طابور المدرسة الابتدائية تواجه الوشوش الكالحة والباردة وهي تمسك بميكروفون الإذاعة تلقي كلمة الصباح وتبتسم كثيراً بينما يصرخ فيها مدرس اللغة العربية القصير الأصلع ويده طالعة نازلة أمام كرشه بعصا غليظة: فاشخة بقك أوي كدة ليه؟ كانت أنا. سهرت طوال الليل أكتب كلمة تساوي سنواتي العشر وأعبر بصوتي باب المدرسة والأصابع المغموسة بالطباشير قبل أن يستل صوت المدرس العابس الملامح ويسقط كالحجر مهشماً الصورة بضربة قاتلة. يقولون أن الطفل المفرط الحساسية تنجرح مشاعره بسهولة وقد يستمر في بكاء متواصل، ومع ذلك أنا لم أبك في لحظة خيبة الأمل هذه، شعرت بوجع كبير في صدري ومعدتي وتعرق جبيني واحمر وجهي كله لكن عيناي تحجرت على نظرة تحدى أشهرتها في عيني المدرس الذي أدار وجهه الناحية الأخرى وتحشرج صوته؛ كنت أتصور حتى هذه اللحظة أنني ساحرة، أستطيع أن أختصر كل مسافات الود بابتسامة تصورتها مشرقة كزهر شجرة الرمان في الحديقة الصغيرة الخلفية لمدرستي والتي كنت أتسلل إليها في الفسحة وأقتطف زهرة أو زهرتين أشمهما ثم أمضغهما بتلذذ بطيء وأبتلع طعمهما العسل ما يزيد يقيني بما قالته جدتي: الرمان هو شجر الجنة.

قالت أمي أنها سمعت ذات مرة في الإذاعة أن الطفل الذي يُحتفى به جيداً عند ولادته يظل طوال عمره واثقاً في نفسه، وأنني بوصفي الطفلة الأولى في العائلة كان الاحتفاء بي كبيراً ومشهوداً: اتعمل لك سبوع ما حصلش.. كل العيلة والشارع غنوا ورقصوا وانتي كنت مفتحة عيونك ع الآخر ومش طالع منك أي صوت..، طمأنتها أن نظريتها صحيحة وأن ما سمعته في الإذاعة كلاماً علمياً ومضموناً، فلم أشأ أن أضف إلى قائمة خذلانها بنداً جديداً، فأحكي لها عن ارتباكي في سنتي الأولى بالمدرسة ولخبطتي أمام المدرسين وخجلي وأنا أسير في الشارع ملتصقة بالجدران علنى أكون مخفية لا يراني أحد، وبالطبع لم أصارحها بكل خيباتي العاطفية لأنني من الأساس كنت بلا ثقة في نفسي.

(3)

كانت ابنة عمي تغمض عينيها وتستغفر الله كثيراً، إن شاهدت قبلة بين حبيبين على شاشة التليفزيون، ولما كنت أستنكر: أحسن لك تقفلي التليفزيون. كانت ترد: استغفري أنت كمان لما تشوفي حاجة زي كده عشان ربنا ينجيك وما يحصلكيش الحرام ده. وحين أبتعد عنها كانت تشدني من يدي وتعدد الفتيات والصبايا الجميلات اللاتي اختفين فجأة، بعضهن اشتعلت فيهن النار، والأخريات غرقن في الترعة، وتسألني ابنة عمي بحسم: تعرفي.. إيه اللي حصلهم؟، أجيبها ببرود: ماتوا!

تصرخ في: لأ.. عشقوا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top