نـاهـد صـلاح تكتب: أنا والحمار وخيبتك!

فيما كنت أمر عند بوابة التفتيش في مطار القاهرة، كاد قلبي أن ينخلع حين خلعت أول فردة من حذائي الشتوي الطويل، الـ\”بوت\” بمنطوق آخر، الأمر لم يكن سهلا على الإطلاق؛ الحذاء كان ضيقا لكني اضطررت مثل خلق الله أن أخلعه بأوامر رجل الأمن الذي لم يرف له جفن وهو يشير إلى حذائي، وأنا أحاول أن أتشبث ببوابة التفتيش حتى لا أبدو شخصية كارتونية، فأترنح وأتزحلق ثم أقع على ظهري وتظهر دائرة النجوم على رأسي، وحتى لا أتحول إلى \”عبيطة\” في مشهد كوميدي سخيف؛ عبرت البوابة على أطراف أصابعي بعد أن لفحتني \”هبّة\” برد اقتحمت عظامي، خصوصا أنني كنت خلعت الجاكيت أيضا، وظللت أردد على طريقة أم كلثوم: كله عشان خاطر عيون التأمين والأمن يهون.

انزويت جانبا بعد خطوتين من عبوري الحافي، وبعض الأعين تتابعني مع أننا جميعا سواسية، حفاة نحمل أحذيتنا في يد ونجر \”جواكتنا\” باليد الأخرى، وضعت قدماي دفعة واحدة بطريقة مدرّبة في البوت طويل الرقبة، فـ \”كتر الخلع يعلم اللبس\”؛ وقد تدربت جيدا وابتكرت طرقا في السرعة القياسية في مطارات أوروبا التي علمتنا جزاها الله كل خير منذ ضرب برجي التجارة العالمي بأمريكا، رشاقة أن نتحرر من أحذيتنا ثم نتشبث بها في ثواني، رقصة المطار التي يكتمل إيقاعها إذا أصرت صفارة الإنذار أن هذا لا يكفي، فيطلب منك رجل الأمن أن تخلع الحزام أو تدخل غرفة التفتيش الذاتي.

وقفت في طابور الدخول، وسألتني السيدة التي تختتم جواز السفر بلؤم: مسافرة تركيا ليه يا مدام؟ ولأني لا أحتاج لتوصية؛ نظرت لها بنفس اللؤم: ليه سؤالك يا مدام؟ فهزت رأسها بشكل عبثي: مممم.. صحفية، طيب اتفضلي.. وأعطتني جواز السفر بـ \”قرف\” لم تشفع أمامه مهنتي التي كدت أبلها وأشرب ميتها، كما لم تشفع مرة أخرى في رحلة عودتي حين استوقفني مأمور الجمرك ليفتش حقيبتي المنتفحة بملابسي الشتوية الثقيلة، ولا سيما وأنا قادمة من بلاد العدو، لكن لا أخفيكم سرا كنت مبسوطة جداً لأنه لا توجد ثغرة في مطارنا العظيم \”تفوت منها دبانة\”.

………………………

حمارُ ليس تائها يا اولاد الحلال، لكنه خطط ودبر مستغلا وجود ثغرة أمنية لدخول مطار القاهرة الدولي، والحمار الذي كرر المحاولة حسب تصريحات مصادر بالمطار، ليس كحمار توفيق الحكيم؛ ذو اللون الأبيض وكأنه قد \”خلق من رخام\”، لكنه أصبح بين ضحية وعشاها نجم برامج الـ \”توك شو\” والفضائيات والمواقع الصحفية والـ\”فيس بوك\” ورفاقه من ساحات التواصل الاجتماعي، ما بين الدهشة من تصريحات المسئولين التي لا تحمل قدرا من المسئولية والتي جاءت على طريقة \”معلش! مش هيحصل كدة تاني\”، وطالبوا بعدم تداول صور الحوار أو الفيديو الذي يظهر فيه الحمار متجولا \”عشان سمعة مصر\”، وبين السخرية من الفراغ الآدمي في هذا البلد حتى إن الحمار نفسه \”زهق\” ولا يريد العيش فيه، فاتجه إلى المطار \”عشان ينفد بجلده\”.

الدهشة أو السخرية تُسلمنا إلى الواقع، وهو أمر لا نُفاوض عليه ولا نُنكره، فهنا هو حاضر، لا يساورنا شك، الحمار حاضر، انسل من ثغرة ودخل أرض المطار البراح، حدق فيه الجميع وهو لم يعبأ بأحد وسار كأنه يعرف كيف يتدبر أمره ولم يشعر أنه عالق في مكان غريب لا يخصه ولا يمتلك ناسه عاداته، فالحمار الأليف، الصبور برأسه الكبير وذيله القصير وأذنيه الطويلتين، يبدو أنه استأنس بسرعة، فانطلق وكأنه يكفيه المرور الجسدي الذي يقفز على كل الحكايات أو المسح الأمني للمنطقة.

رسم تاريخ قدماء المصريين الإله ست، إله الصحراء والعدم على شكل حمار في المعابد القديمة، كرمز لمساعدته الإله رع (رمز الشمس) خلال رحلته في العالم السفلي (الكسوف)، وكان الحمار في الأساطير اليونانية رمزاً للإله ديونيسوس، وفي العهد القديم والتاريخ اليهودي، سمي ملك شيشم (نابلس) حامور، كنوع من التقدير والقيمة العالية، وفي رسومات المسيحية، ظهرت صورا للمسيح راكبا حمار، وفي القرآن، ذكر الحمار في أكثر من موضع كما في قوله في سورة لقمان: \”وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ\” وقوله تعالى في سورة الجمعة: \”مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ\”.

المعلومات من ويكبيديا على فكرة، وهي تشير إلى حكمة حضور الحمار في الحياة، وهو سؤال شغلني منذ طفولتي، وأنا الفلاحة القادمة من الريف والحافظة ظهرا عن قلب حواديت جحا وحماره، وكنت أتابع هذا الكائن الصغير الذي يخرج من بيته في الصباح ولا يعود إلا في المساء متقدما جيش المواشي، أو يظل \”رايح / جاي من الدار للغيط\”، وهو يحمل أثقالا كبيرة وفوقها صاحبه في الغالب دون أن يتذمر أو ينكل بأحد، ولم أكن حينذاك عرفت جمعية الحمير المصرية الحقوقية ولا فهمت مغزاها، ولا أن الحمار هو شعار الحزب الديمقراطي الأمريكي كناية عن الصبر، أو أن الفرنسيين اتخذوا يوم 6 أكتوبر من كل عام يوما للحمار.

على أي الأحوال، تعددت صور الحمار وقصصه وحواديته؛ ليأتي حمار المطار كأنه آخر الحكايات، أو ليصنع موشحا جديدا عن مصير وطن يزداد فيه العبث رويدا.. رويدا.

…………………….

بينما انتهيت من قراءتي لرواية جورج أوريل، مزرعة الحيوانات، وتوقفت كثيرا عند الحمار بنجامين الذكي، الحذق، الشكاك، الذي يكتشف خداع الخنازير في حكمهم، وكما قال أرويل: بأننا لا نفهم فقط لغته، لأنه يضحك علينا، فعقله هو، لا يعمله في سخافات، ظللت أُقنع \”لولي\” ابنة شقيقي بأن تتنازل عن إصرارها على أن يشتري لها جدها (أبي)، \”معزة\” وأن تختار بدلاً منها حمارا، فإذا بجرس الهاتف يرن:

– آلو

– مساء الخير يا أستاذة.. عايزين شوية معلومات عن بشير الديك

– اسمع يا ابني، عارف فيلم \”سواق الأتوبيس\”

– ده كان إمتى يا أستاذة؟

– في بداية الثمانينيات يا ابني

– يا أستاذة .. أنا مواليد 90

– إنت حمار يا حمار؟!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top