هنا عاش يوسف وهبي وشكوكو والفرنسية التي قتلت حبيبها المصري:
كان القصر الوردي او \”قصر الخلد\” مسرحا للكثير من الدراما منذ بنائه عام 1907 ميلادية، على يد المهندس الإيطالي \”أنطونيو لاشياك\”.. دراما تعدت خطوطا حمراء كثيرة، تفاصيل حملت معها أعواما بعيدة وأفكارا وسياسة بين الشرق والغرب وفنا وحبا وحقائق تضع البشر دائما رهنا لقاعدة واحدة هى: \”كل له وعليه\”.
\”قصر الخلد\” أو قصر عائشة فهمى كما وثق اسمه، يطل بمساحة كبيرة على مياه نهر النيل بمنطقة الزمالك، ذلك المبنى الهادىء الذى تمر به فى أول لحظات نزولك الى منطقة الزمالك الساحرة من جانب كوبرى أبو العلا، والذى تم افتتاحه منذ أيام قليلة للجمهور بعد ترميمه وتطويره، سيدخلك منذ اللحظة الأولى التى تطأ قدماك فيها باب القصر إلى صندوق الدنيا، أو آلة الزمن ليصاحبك على تلك السيدة الفرنسية ذات الملامح الغربية التى قد تكون وقفت هنا منذ ثمانين عاما لتدخل عالم الرجل المصرى الثرى فى عشرينيات القرن الماضى حين أحبها لدرجة العشق، وهو علي بك فهمى الذى شغلت قصته اهتمام الصحافة المصرية والبريطانية والفرنسية لفترة طويلة.
هنا تشاجر الزوجان، وعلى هذا الباب بمصاحبة عيون الخدم، وجه على فهمى أوامر إلى زوجته الفرنسية التى منحها اسم والدته \”منيرة\” بعد الزواج وأشهرت إسلامها، حين كان يرفض خروجها إلا مع خادم كما كانت عادات تلك الفترة، لتصطدم بما لم يشغل بالها حين وافقت على زواجه سواء كان محبة له أو طمعا فى ثورته، كما قد يكون عنفها، أو ألقى عليها كلمات المحبة فى تلك الحديقة الأنيقة التى تأخذ شكلا مستديرا حول النيل وكأنها تحتضنه، هنا قد يكونا تذكرا لحظة خطاباته الغرامية التى أقنعتها بالزواج من شاب يصغرها بعشرة سنوات، هنا عاد من عمله وهو ابن كبير ياوران الملك فؤاد، ليخبرها أنه التقى بـ هيوارد كارتر، مكتشف مقبرة توت عنخ آمون وأنه نظر فى عيني إحدى المومياوات، هنا أيضا كونت أخته عائشة فهمى معادلتها فى الحياة، والتى لا يحتفظ لها بأى صور وسيرهقك البحث عن ملامحها.. تلك الحبيبة التى شغلت يوسف وهبى ومحمود شكوكو، الأرستقراطية النبيلة التى عاشت ما بين مصر ولندن وتابعت قضية قتل أخيها فى كمد.
حين تدخل القصر تتسرب إليك كل تلك اللحظات التى تسكنه وسكنته منذ عشرات السنين، تبهجك ترتيبات القصر البسيطة فهو غير مركب التقسيم، ثلاثة أدوار فوق بعضها البعض إحداها قبو تحول إلى معرض فنى بديع الآن، يوجد داخله لوحات لمحمود سعيد الفنان المصرى المعروف، أما الطابق الأسفل به حجرة \”البلياردو\” كما تصنف الآن والتى يتوسطها صالون هادىء افترش الوسط وحوله بعض التابلوهات الجميلة اختارت الجدران حكيا لها، يصاحبها بعض اللوحات الخشبية التى مازالت محتفظة بقسمات وأرقام نتائج لعبة البلياردو التى كانت تميز طبقة بعينها فى مصر فى عشرينيات القرن الماضى.
بعض الغرف الأخرى الواسعة على جانبى الطابق الأسفل يمينا ويسارا تحمل إضاءة خافتة تسمح لك كلما سنحت لك الفرصة أن تتخيل هؤلاء.. من مروا من هنا وعاشت الجدران حكاياتهم المليئة بما يخصهم، ورق الحائط يحتفظ بألوانه وهو ذو ملمس بارز بعض الشىء، بعض القطع منه قد تآكلت بفعل الزمن، فأبقاها المرممون كما هى علنا نتخيل ما حدث، أو نكتفي بالاستمتاع بها.
الطابق الأعلى يحمل معه ملامح أدفأ قليلا، فغرف النوم وحماماتها الأنيقة جدا بمقاييس عصرهم مازالت هنا بتفاصيلها، السخان المعدنى القديم بتلك الأسطوانة العمودية التى تصعد إلى الأعلى وتخرج معها بخار الاشتعال، كما أن الحوض والبانيو يحملان علامات متطورة فى البناء، رخامية الملمس ومتسعة المساحة، يجاورهم غرفة التأمل التى احتفظت بداخلها بتصور خاص عن اليوجا، كما احتفظت بتمثالين لبوذا يجلس أسفلهما مكانا مرتفعا قليلا عن الأرض يدعوك للجلوس على نفس النهج البوذي والبدء فى الطقوس، والغرفة مظلمة إلى حد كبير وقد تكون الغرفة الوحيدة التى تم تغطية فتحاتها بأخشاب تحجب الشمس قليلا ليكتمل مشهد التأمل.
رغم أنه القتيل، يُدان الرجل العشرينى وهو فى قبره بالكثير من الصفات التى تقدح فيه بناءا على تصور خاص عن الرجل الشرقى فى تلك الفترة، مشهد درامى مؤثر عظيم يحاكيه المحامى البريطانى الشهير فى تلك الفترة \”سير مارشال هول\” جذب إليه أنظار العالم فى توقيت وجدت بريطانيا فى مصر عنوة، لم يجد دفاعا يخرج موكلته الفرنسية القاتلة من ورطة القتل العمد إلا بأن يهاجم الحضارة الشرقية والإسلام وتقاليده أمام الغرب وتقدمه ومدنيته، وهى القصة التى حاك فيها صلاح عيسى كتابه المهم من وقع أوراق القضية \”مأساة مدام فهمي حكايات من دفتر الوطن\” منذ عدة سنوات.
القصة التى كانت ذروتها منتصف ليلة 10 يوليو من عام 1923 حين أطلقت \”مارجريت فهمى\” أو \”مارجريت ميلر\” على زوجها علي بك فهمي النار بأربعة رصاصات ليموت فى الحال، تحت بند الكثير من الدفاعات منها تخلف الشرق ومحاولته تملكها، وإجبارها على القيام بما يتنافى مع إنسانيتها وغيرها، لتتحول ابنة السائق الفرنسى الفقير إلى بطلة من وجهة النظر الأوربية، رغم استغلالها جمالها فى قصص أخرى سابقة، حتى تلتقى ابن الثرى المصرى أحد كبار الملاك والذى يتوفى ويترك لابنه تركة كبيرة مع أربع شقيقات، لتنتهى المعركة بينهما بقتله.
ويروى مراسل الأهرام وقتها \”د. يونان لبيب رزق\” كيف أن القاعة التى شهدت المحاكمة فى 11 سبتمبر كانت لا تتسع إلا لعشرين شخصا، وهو الأمر الذى تحول فيما بعد لتزدحم بالعشرات بخلاف الواقفين خارجها بعدما تحولت القضية إلى محاكمة للشرق داخل دولة محتلة فى ذلك التوقيت وهى \”بريطانيا\”، ورغم أن القاتلة فى مذكراتها فيما بعد أكدت أنها \”لم تكن تشعر بالحب إلا مع علي فهمي الذى أحبها بشدة\” وفسر صلاح عيسى الخلاف بينهما بأنها رفضت الانصياع لأرائه وهى التى أحبت السهر والخروح والانطلاق وأنه كان لابد من تصادم، إلا أنها ظهرت كضحية له فى النهاية.
القصر الذى عاشت فيه مارجريت فهمى لفترة من زواجها والذى لا نعلم كيف كانت حياتها داخل تلك التحفة الفنية، عاشت فيه أيضا عائشة فهمى أخت المليونير المصرى القتيل بعدما اشترته من الورثة ليصبح نصيبها بمبلغ 72 ألف جنيها عام 1924 م والذى عاشت فيه مع يوسف بك وهبى الفنان المصرى المعروف.
نعم هنا فى القصر الوردى وداخل تلك الطرقات التى يتحرك فيها الآن زوار القصر، عاش يوسف وهبى الفنان، هنا قرأ الكثير من السيناريوهات الهامة لأعماله الفنية الخالدة فى \”قصر الخلد\”، هنا اتصل وهاتف المخرجين، وقد يكون القصر قد شهد الكثير من البروفات الفنية الهامة لأعمال مازالت تحفر اسمه بداخلها، هنا أحبت عائشة فهمى هى أيضا يوسف وهبى الذى انشغل لفترة طويلة بقضية أخيها علي كامل فهمي وتابعها من خلال المحامى المصرى المعروف وقتها \”عبد الرحمن بك البالى\” لأن والده عبد الله وهبى كان صديقا لعلى فهمى، وقبلها حين زادت المقابلات السرية بينه وبين عائشة تحدثت الصحف عن تلك المقابلات فما كان منه إلا نفي الخبر وأنها صديقة عزيزة حتى فاتحها بحقيقة مشاعره فى لندن أثناء سير القضية.
وحين أصدر القاضى السير \”ريجى سويفت\” حكمه ببراءة \”مارجريت ميلر\” الفرنسية من القتل بعدما أكد المحلفين بأنها \”غير مذنبة\” بناء على الدفاع الدرامى الذى استغله المحامى ووضع القضية فى قالب \”الشرق والغرب\” والعادات الشرقية التى تجعل الرجل المصرى يرى المرأة رؤية متدنية، كان الحكم مفاجأة للجميع، رغم قتلها للمليونير الشاب ذي الـ 23 عاما بأربع رصاصات.
ليسدل الستار على القصة الأولى التى شهدها القصر الفخم الذى يقف الآن فى مكانه وهو حاملا للكثير من الحكى الذى قد لا نعرفه عن القصة الأشهر التى تصدرت عناوينها الصحف العالمية والمصرية فى عشرينيات القرن التاسع عشر، وكان لها ردود أفعال قوية منها بعض الدراما والمقالات كرواية \”أولاد الذوات\” ليوسف وهبى والتى استمدت تفاصيلها من القضية كما كتب المحامى الشهير وقتها \”أنطون يزبك\” رواية تعالج قضية زواج الشباب المصرى من أجنبيات ونشرها فى مجلة \”البلاغ\”.
يشهد القصر فى صمت قصة جديدة حين تتوالى المقابلات الشخصية بين يوسف وهبى وعائشة فهمى ويلتقط لهم مصور صورة تتسبب فى أزمة كبيرة، وتكتب صحيفة بريطانية: \”علاقة تربط النبيلة المصرية شقيقة القتيل بممثل مصرى شهير\” الخبر الذى أثار عائلة فهمى باشا فى القاهرة وأخت عائشة \”عزيزة فهمى\” التى طلبت مقابلة يوسف وهبى فى بيتها بلندن والذى تحدث معها عن قضية أخيها وحاول أن يطمئنها على الحكم الذى سيكون فى صالح القتيل لأن الفرنسية زوجته قتلته مع سبق الإصرار والترصد، وأن دفاع محاميها الشهير لن يشفع لها، وفى نهاية اللقاء طالبته بالابتعاد عن أختها عائشة فهمى لأن الأسرة لن تقبل زواجهما لعمله ممثلا.
عائشة فهمى ويوسف وهبى التي كانت تكبره بستة عشر عاما، انفصلا بعد أن أشهر إفلاسه، وعاشت هى قصة حب جديدة مع الفنان المصرى \”محمود شكوكو\” وهى القصة التى انتهت أيضا بالزواج، إلا أن يوسف وهبى حسب ما كتب قد استشاط غضبا وتحدث مع العائلة المالكة فى مصر حول الزواج الذى يراه غير متكافئ وضغط الجميع على شكوكو حتى تم الطلاق وعاش كلا منهما يحمل حبا للآخر.
القصر الذى شهد الحديث عن دخول علي كامل فهمي بيت \”هيوارد كارتر\” وحضور الاكتشاف الهام لمقبرة توت عنخ آمون بناء على مكانته الاجتماعية وقتها، والذى وثق أن حادثه المأساوي الذى مات من خلاله فى لندن على يد فرنسية بأربع رصاصات ما كان إلا لعنة فراعنة، نتيجة رؤيته لمومياوات المقبرة، يحمل أيضا تخيلات عدة.
يظل القصر الوردى فى مكانه، بوابته، وتفاصيله القائمة، وزواره الذين قد يعلمون عن تاريخه أو لا يعلمون، إلا أنه تحفة فنية هادئة احتملت حكاوي زمن بظروف كثيرة، ليصبح القصر الذى بنى منذ مائة وعشر عاما يزدحم بتفاصيل بعيدة تخص أصحابها فقط.