من يتابع الحراك السينمائي اللبناني على مستوى صناعة الأفلام الوثائقية، في الأعوام الخمسة الفائتة على الأقلّ، يكتشف أموراً عديدة تصلح لنقاش نقدي ينطلق من المفهوم الحديث للفيلم الوثائقي، ويكاد لا ينتهي عند المواضيع المختارة وآليات معالجاتها الدرامية والفنية والجمالية. ذلك أن التحوّل من اللغة التلفزيونية إلى ابتكار أنماط بصرية أقرب إلى السينما ومفرداتها الفنية، يجعل الفيلم الوثائقي نتاجاً إبداعياً تتكامل فيه الأدوات كلّها الخاصّة بالاشتغال السينمائي. أي ان الخروج من حقبة التحقيقات التلفزيونية إلى بنى فنية تمزج الروائي بالتسجيلي، وتضع الواقعيّ في تناغم عميق مع المتخيّل، يؤدّي إلى جعل الصورة مرادفاً لإبداع الحكاية المنوي سردها على ألسنة شخصيات حقيقية، أو عبر مزج التخييليّ بالوقائع والتفاصيل الحسّية.
سينمائيون لبنانيون شباب يُطلقون نهجاً وثائقياً لبنانياً جديداً في مقاربة أحوال بلد وناس ومجتمعات محلية، وفي قراءة قصص ذاتية أيضاً. يستلّون مواضيعهم المتنوّعة من حكايات أقارب لهم (أب، أم، عمّ، جدّ، وغيرهم) كي يستعيدوا ذكريات فردية مُضافة إلى ذاكرة جماعية تبوح ببعض المخفيّ، وتقول شيئاً من المبطّن أو المتداول شفهياً. الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990) أساسية في مقارباتهم السينمائية تلك الذكريات وهذه الذاكرة، لكن الحميميّ لا يتنحّى كلّياً لمصلحة العام، لأنه جزءٌ فعّال من الحكاية الفيلمية برمّتها. التاريخ اللبناني القديم حاضرٌ بدوره هنا وهناك، لكن التواصل معه سينمائياً ـ وثائقياً ينبني على مرويات أهل إما عاشوا فصولاً منه فكانوا شهوداً عليه، أو حفظوا أحداثاً وحكايات منه وعنه عبر التواتر الشفهيّ فكانوا حافظين له من اندثار أو تغييب. يأتون بهذه النتف المتناثرة في أروقة الوعي أو في دفاتر الزمن أو في المرويّ شفهياً، ويضعونه في قوالب سينمائية يرغبون في اختبار أشكالها للتعبير البصريّ عما يريدون قوله. أما الشخصية الرئيسية (أحد أقارب المخرج ـ المؤلّف) فتُشكّل خيطاً جوهرياً في البناء الفيلمي، بسردها ما يجول في خاطرها من مسائل ومشاعر وتفاصيل، وبمواكبة الكاميرا لها كمن يرافق أزمنة وتواريخ، أو كمن يستمدّ قوة من براعة الشخصية هذه في مواجهة التحدّيات المختلفة.
سينمائيون لبنانيون عديدون يُطالبون أقاربهم بالدخول في عوالمهم السينمائية بحثاً عن/ في محطات غير موثّقة بعد، أو عن قصص غير مكتوبة بعد، أو عن مسائل معروفة عبر \”الروايات الرسمية\” فقط، لكن المخفيّ فيها غير معروف أو غير متداول بشكل واسع. من ناحية أخرى، يحاول هؤلاء السينمائيون أن يجعلوا من شخصياتهم ـ أقاربهم مداخل إنسانية إلى ماضٍ مليء بجراح لم تندمل، وإلى تاريخ محشو بخداع يُراد منه التغطية على حقائق أو وقائع، فإذا بهؤلاء الأقارب ـ الذين يشاهدون ويُعايشون ويعرفون ـ يُصبحون أشبه بمنارات تلتقي فيها وعندها أشياء عديدة من مرويات لم تعد منسية بفضل هذه الأفلام الوثائقية.
من غسان سلهب (1958) إلى سيمون الهبر (\”سمعان بالضيعة\” و\”الحوض الخامس\”)، مروراً بداليا فتح الله (كاوبوي بيروت) وزينة صفير (بيروت عالموس) وأحمد غصين (أبي لا يزال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع) وديغول عيد (شو صار) ورامي نيحاوي (يامو) وإليان الراهب (هيدا لبنان) وفيليب عرقتنجي (ميراث) وغيرهم، يكتشف المهتمّون بالسينما الوثائقية كم أن الخاص قادرٌ على إعادة كتابة فصول من التاريخ العام، وكم أن الذاتيّ ـ الحميميّ قابلٌ لأن يكون الوعاء البصريّ الأفضل والأهم لأرشفة ماضٍ، ولتأريخ لحظةٍ، ولتوثيق حكاياتٍ وأحداثٍ، ولاختبار مفرداتٍ جديدة للصورة في مقارباتها المتنوّعة أنماط العيش، ومعاني القصص.