ندى القصبي تكتب: كي تأنس به

إن كنت تقرأ هذا المقال، فهذا يعني أنني لم أتخاذل في اللحظة الأخيرة، وأني بذلت ما بوسعي كي يصل هذا المقال إليك.. كل عامٍ وأنت بخير، يا صديقي القارئ.. رمضانك كريم بإذن ربك وربه، ولعّلك تجد في هذا الشهر قربا لخالقك وقربا لذاتك ورسالتك في هذا الكون، وأن تجد في وجودك بقرب عائلتك مسرة ومحبة.

في هذه الأجواء الكريمة لا يسعني إلا أن أحدثك عن أحد كتبي المفضلة.. \”الحكم العطائية لـ ابن عطاء الله السكندري\”، لم أكن قد سمعت عن هذه الحكم إلا من قريب، حين اقترحها عليّ أحد الأصدقاء، وقرأتها بتمعن في أحد الأوقات التي خاب فيها ظني بباب طلبته من الله، وأُقفل في وجهي. دعنا نعترف أولا أن الإيمان بخالق للكون في عصرنا الحالي مع انفجار ثورة العلم، يستلزم من المؤمن خيالا وثقة، ثقة بهذه القوة التي يمكنك الشعور بها ولا يمكنك إثبات وجودها، فإثبات وجود الله في العصور السابقة عن طريق الظواهر أو الكوارث الطبيعية، لم يعد ممكنا في ظل التفسيرات العلمية، والحروب الدينية والطائفية أصبحت تأخذ شكلا أوسع وأكثر تشعبا، ولم يعد بإمكانك أن تتفق مع الأشخاص الذين يشاركونك نفس المعتقد الديني، ناهيك عن اقناع شخص ما بوجود خالق عن طريق حكاية ساذجة مثل حكاية القارب الذي تكّون وحده، يمكنك إذا أن تختار طريقك كما تشاء، فإن كنت تؤمن بوجود الله، فعليك أن تؤمن بحكمته بأن خلق الكون على هذا الاختلاف، وأنه ترك لكل انسان حرية اختيار معتقده وإيمانه الخاص. وأن تتخير أنت طريقك الذي تريد أن تمشي فيه لتصل إلى كمالك الروحي.

ابن عطاء الله اختار – كفئة مثله ليست بالقليلة- أن يمشي في طريق الحب مع الله، وأن تكون علاقته بربه قائمة على الحب والثقة والامتنان له.

من خلال علاقة كهذه كتب ابن العطاء هذه الحكم، وسأعرض عليك بعضها لتتأملها. ويمكنك الاطلاع على البقية والتفّكر في تفسيراتها والمعاني الباطنة وراء كل حكمة.

– الحكمة السادسة والعشرون: \”من علامات النجاح في النهايات، الرجوع إلى الله في البدايات\”

من ضمن الذين يبعثون دون حساب، شاب نشأ في طاعة الله. يقول والدي أن من ربى ولده على طاعة الله، فسيظل طريقه محفوظ وإن التف حوله وضلّ الطريق، فتلك البداية سترشده دوما -وإن تأخرت- ليعود لطريق الله المرسوم له في بدايته. وأن هذا يشمل كل أعمالك وقراراتك، فإن كان الرجوع إلى الله هو بداية عملك، فلا تخشى عليه من الفشل.

– الحكمة الخامسة والستون: \”خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه، أن يكون ذلك استدراجا لك: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) – سورة الأعراف، آية182- \”

كنت أقول لوالدي أن الله يعاملني برحمة منه، فهو يغفر زلاتي ويتجاوز عنها. لا يمكن أن أحاط بكل هذه النعم وأنا عاصية بهذا الشكل، فينظر إليّ محذرا أن لا تكوني ممن يستدرجهم الله.. كيف تفّرق بين أن يعاملك الله برحمته، وبين أن يستدرجك الله بمعصيتك؟ هذا الفرق هو الذي يحدده طريقك واختياراتك. وهذا السؤال تحتاج أن تجيب عليه في كل مرحلة من مراحل حياتك.

– الحكمة الثانية والستون:\”أنت حرُ مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع\”

الدنيا محفوفة بالمكاره والشهوات، ومازلت -شخصيا- لم أتوصل لحكمة الخالق في أن خلقنا في عالمٍ مثل هذا. وما المطلوب منا حقا؟ لكنك سرعان ما ستكتشف أسرار هذا العالم، وتحاول البقاء فيه محتفظا بالقدر الكافي من الثقة، والتصرف بشكل يليق بإنسانيتك. وستعرف أنك خلال طريقك ستحتاج لأن تتخفف من كل ما هو ثقيل الحمل، فلا تطمع في شيء يثقل حملك ويؤخر طريقك.

– الحكمة السادسة والثمانون: \”إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى\”

كل ما على هذه الأرض صائر لزوال، ولا يتطلب معرفة هذا إيمانا ما. فكل حيًّ اختبر زوال الأشياء من حوله، مراتٍ عدة، وتقّلب الأيام. فالعاقل من لا يطلب العز من أشياء يعرف يقينا فناءها. وهذا اليقين هو ما يدفعك للزهد في كل شيء، والتمسك بأعمالك التي تبقى بعد الفناء.

– الحكمة الحادية بعد المائة: \”متى أوحشك من خلقه، فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به\”.

حين يضيق صدري وتنغلق الأبواب من حولي، يقول والدي بخفوت:  (فإن له معيشة ضنكا)، لم أكن أحب أن يقولها لي، ولا أحب أن أعتبر أن الله يعاقبني ببعدي عنه، حين أتفكر في هذا الآن، وأجد وحشة في غياب من أحب. أعرف أن الله يوحشني غيابي عنه أيضا، ويربكني. فتتعقد أحوالي ويضيق صدري بما يحمل، حين تنغلق الأبواب وتجد نفسك قد ضاق صدرك بالعباد، فأنس إليه. التمس غارك وانعزل عن الخلق إلى ربّ الخلق.

– الحكمة الثانية والأربعون بعد المائة: \” الناس يمدحونك، لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلمه منها\”.

حين كان الناس يجزلون المدح لصديقي، كان يقول (اللهم اجعلني عند حسن ظنهم بي، واغفر لي ما لا يعلمونه عني). وصرت أقتبس عنه هذا الدعاء، حين يكثر المقربون منا المدح دون أن يقتربوا بما فيه الكفاية ليروا عيوبنا التي أخفاها الله رحمةً بنا، وسترا. جدير بك أن تخاف المدح وتخشاه، وإن لم تجد من يذّمك فكن ذاما لنفسك، فأنت أعلم منهم بما يعيبك.

– الحكمة الثانية والتسعون بعد المائة: \”إذ التبس عليك أمران، فانظر أثقلهما على النفس، فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا\”.

قبل أن أتعرض لصراعات الهوى والنفس في الشق النفسي من دراستي، لم أكن أعي لماذا الخطاب الديني يتحامل على النفس وتذكر متبوعة بالصراع والجهاد وإكراهها على ما تريد؟ لماذا عليّ أن أحارب نفسي. حين أدركت بعض صراعات النفس بدأت أدرك أن التعامل مع النفس يحتاج جهاداً ليس باليسير، حين أخبرت أحد أصدقائي بأني أسير وراء ما تركن إليه نفسي ويقودني إليه حدسي، تساءل إذا ما كنت واثقة بما فيه الكفاية أن نفسي لا تخدعني؟ وأنها لا تخدّرني حتى أسير في الطريق الذي تريده هي؟

هذه بعض الحكم التي كتبها ابن العطاء، حب تأويلي وتأملي الخاص. ولكلٍ منا تأمل خاص به سيوافق نفسه عند قراءته، اقرأها بتمعن وفكّر في تأويلك الخاص بك. وما لمس شغاف قلبك حين قرأته!

وسأختم حديثي بحكمته الثالثة عشر:

\”كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟

أم كيف يرحل إلى الله، وهو مكّبل بشهواته؟

أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله، وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟

أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار، وهو لم يتب من هفواته؟\”

لقراءة كتاب الحكم العطائية لـ ابن عطاء الله السكندري.. اضغط هنا

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top