ندى القصبي تكتب: "دستينو" مولودة القرملاوي الثانية.. ابنة للواقع!

الانطباع الأول:

السبب الرئيسي وراء إعجابي بقلم القرملاوي هو روايته الأولى \”التدوينة الأخيرة\”، انبهاري بهذا العمل كان السبب في متابعتي للكاتب وانتظاري لأعماله الجديدة. وحين قرأت خبر نشر عمله الجديد \”دستينو\”، انتظرت بفارغ الصبر توزيع النسخ حتى أحصل على نسختي الخاصة منه. ولأنه يصعب عليك أن تقرأ العمل الثاني لكاتب دون أن تجر وراءك عمله الأول بالمقارنة أو التوقعات، فكنت أحمل الرواية الجديدة وأنا محمّلة بتوقعات مسبقة عن لغة الكاتب وأسلوبه، أراهن على أن يبهرني مجددا وأخاف في ذات الوقت أن يخيب ظني به.

عنوان الرواية:

في البداية لن أنكر أن عنوان الرواية أصابني بإحباط ما أوصلته بنفسي للكاتب، لأسباب شخصية هي أني لا أحبذ اختيار عنوان غير عربي لرواية تحسب على الأدب العربي. لكنّ هذا لم يمنعني من انتظار العمل بشغف. وبعد قراءة العمل مازال تحفظي قائما، ومازلت أرى أن لغة القرملاوي تسمح له بابتكار عنوان أفضل للعمل يستطيع التعبير عن العمل بشكل أفضل، وهذا التحفظ يشمل الغلاف أيضا.. فقبل قراءتي للعمل أعطاني العنوان والغلاف انطباعا ما، لا أستطيع القول إنه عبّر بشكل صحيح عن الرواية.

الإهداء:

أحب في الأغلب أن أتوقف قليلًا عند إهداء الكاتب كي أعرف دواخله ومشاعره أثناء الكتابة. أو أتلصص قليلا على من يحبهم ويهدي إليهم فخره بوليده الجديد، اختار الكاتب في هذا العمل أن يهديه إلى \”الجميع باستثناء البعض\”.. الإهداء الذي وجدته ملهما إلى حد كبير، ومثيرا جدا، جعلني أندمج في قراءة العمل لأنني بشكل ما شعرت أن القرملاوي قد أهدى إليّ عمله.

الواقع الخيالي:

في روايته الأولى استطاع القرملاوي أن يصنع عالما خياليا بجميع أبعاده، لذلك كنت أخشى أن يفشل في ابتكار رواية من العالم الحقيقي، حيث تشبهنا شخصياته ونعرف جيدا هذا العالم، لكن القرملاوي أبدع في صياغة عالم يشبه عالمنا بتفاصيله المزعجة ودراميته المقيتة التي نعيشها يوما بعد يوم، مما يجعلني اتأكد أن إبداعه لم يكن ضربة حظٍ في روايته السابقة، لكنّها موهبة متجددة استطاعت أن تبهرني مرتين في عالمين مختلفين. اختار في هذا العمل أن ينخر في المجتمع الرأسمالي الذي نعيشه وأن يطرق أبوابا منسية عن أصحاب الأرض الذين تم اصطيادهم في سبيل الذهب! عن عالم المال الجديد \”إن لم تبع شيئا فلا قيمة تمتلكها\”، \”عندما تمتلك المال، يصبح بإمكانك أن تصّر، أن تنفذ رغبتك، حتى وإن لم يكن ما تصر عليه حقا أصيلا لك\”، والخوف من فقد المال، يضعنا أمام الاختيارات التي قد يختارها الإنسان طمعا في المادة، يفتح الأبواب الموصدة والواقع الغريب الذي نعيشه.. عن طمع الإنسان وخياله الأناني بأن كل شيء قد خلق من أجله، \”أحقًا تعتقد أن الله خلق كل شيء لأجل متعتنا نحن البشر؟ وهل خلق هذه الزهرة الرقيقة كي يستمتع بها شخصُ واحد، دونا عن سائر البشر والكائنات\”، فابتكر الحكاية عن طريق خياله بتركيبة جديدة، تشبه إلى حدٍ ما أفكار  فيلم أمريكي، مما جعلني أتمنى أن يتم تحويل العمل لفيلم سينمائي نستطيع أن نرسم الشخصيات بشكل أوسع من خلاله.

الأدب يشبهنا بالضرورة:

من خلال الرواية ستندمج مع الشخصيات التي حتما تشبهك أو تشبه أحد معارفك، خبير التنمية البشرية، علم التنمية البشرية! إن جاز لنا تسميته بالعلم، البحث عن المال السريع، شركات التسويق! التكنولوجيا!

كل شيء في عالم \”دستينو\”، يشبهنا ونعرفه.. المسابقات! وتصويت المشاهدين.. الموسيقى، الفوضى. هذا عالم نعرفه ويعرفنا. ويحكيه لنا القرملاوي بطريقته الخاصة: \”البشر جميعهم متشابهون، رغم ما يبدو على سماتهم من فوارق الألوان والرتوش\”.

الحكاية:

سأخبرك القليل عن حدوتة القرملاوي الجديدة، دون أن أقتحم خصوصيتك كقارئ في اكتشاف الرواية بنفسك، والاستمتاع بحبكتها دون أن أفسدها عليك.. تدور الحكاية عن احتفال يقيمه رئيس الشركة المحبوب من جميع موظفيه، داعيا إليه موظفيه الأقل منزلة، وفاتحا أمامهم أبواب القصر الكبير.. يأتي كل مدعوُ حاملا على كتفيه أفكاره وحياته الخاصة وحاجاته التي يسعى لها، ففي الحفل كلُ يغني على ليلاه.. تبدأ باكتشاف زيف الأفكار المتوارثة وأنك لن تعرف البشر إلا بالتعامل معهم، هل تبدو الحكاية ككقصة المؤامرة المنسوجة حولنا والتي باتت مبتذلة؟ ربما وجدها قارئٌ ما بهذا الشكل، وربما وجدتها أنا في بعض أجزاء الرواية بهذا الشكل، لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنها تعني ذلك.. عليك أن تكتشف إسقاطات الكاتب بنفسك، أو أن تسقطها على حياتك أنت، فلن يخبرك الكاتب بمعانيه الحقيقة!

وعليك التخلص من أفكارك المسبقة.. \”نحمل أفكارا ونحن صغار لا نعلم لها مصدرا سوى الكبار، فمصدر أفكارنا ومفاهيمنا في الصغر هو الكبار على الأرجح، ثم نكتشف سذاجة أفكارنا عندما نصبح نحن الكبار. هكذا الحياة\”.

يقع الموظفون في شباك المسابقة العالمية، حيث يركض الجميع نحو الفوز. تنكشف الحقائق المخفية، ويبدأ كل شخص بالكشف عن قناعه المزيف، إلى أي مدى يمكن الإنسان أن يصل من أجل كسب المال؟ وإلى أي مدى يمكن أن نخضع جميعا لنظام محكم ينسجه الكبار بعيدا عنا، وننجرف إليه كالقطيع راغبين في المكافأة الكبرى! يكشف الكاتب بعض الفوضى التي عاشها أبطاله، وستعيشها أنت بالضرورة.

الحوار:

أعتقدت لفترة طويلة أنني أكره الحوار العامي في الحكاية، وقد كانت هذه نظرتي بالفعل، رغم إيماني بالحاجة له من حين لآخر، لكني كنت أكرهه وأهرب منه ما استطعت، أجده ساذجا مبتذلا يحرمني من الاستمتاع بالرواية. لكني في هذا العمل لم أكره الحوار، بل وجدته مناسبا للحدث، دون مبالغة لا بزيادة ولا نقصان. على العكس وجدتني أحبه وأقتبس منه في بعض الأحيان.

\”النهايات يا راجي هي اللي بتحدِّد اتجاهنا، والطريق بِيترسم تحت رجلينا أول ما نِبتدي نمشيه.. وكل اللي بِنقابلُه في النص، تفاصيل.\”

الانطباع الأخير:

لم يخذلني القرملاوي، أمتعني كما كنت أتوقع، وأبهرني بتفاصيله الجديدة.. ورأيت منه موهبة سأظل أنتظر منها المزيد. ربما لن تكون رواياته هي الأفضل، لكني أحبب روحه التي يصوغها في كلماته، أحببت طريقة سرده وحكايته، ورأيت من شخصه الحقيقي بعض هذه الروح التي أحببت. لن أفضل \”دستينو\” على \” التدوينة الأخيرة\” فستظل التدوينة هي الأفضل بالنسبة لي، لكنّ هذا لا يعني أنه لم ينتج تحفة رقيقة لا تقل جمالا عن سابقتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top