ندى القصبي تكتب: خيري شلبي.. والقرية التي لا أحب   

للكتب المهداة رونق مختلف، وإذا لم يتم اختيارها بحرص تنغلق على نفسها ولا يجد القارئ أمامها من سبيل. وأنا أحب كتبي المهداة أكثر من تلك التي أقتنيها بنفسي، أما هذه فهي مرتي الأولى التي يهديني فيها صديق كتابا من مكتبته الخاصة، كتاب قرأه من قبل وانتظرني في مكتبته طويلا، تلقى الحب الكافي ويقف بشموخ ينتظر حبي.. كل هذا الحب جمعني بكتاب \”الوتد/ لخيري شلبي\” الذي لم أقرأ له من قبل- لسوء حظي- وهو ما أغضب صديقي ودفعه لانتقاء أحد كتبه كهدية تناسبني، فأخبرته أنني كنت أتوق منذ فترة لقراءة خيري شلبي، وأنني سعيدة جدا لأنه منحني هذه الفرصة، فقال إن خيري أفضل من كتب القرية، فقلت بتلقائية: لكنني لا أحب القرية.. أنبني صديقي وذكرني بأصولي القروية، فأخبرته أنني لا أتملص من هذه الأصول، وأنا فعلا أحب جمال القرية، لكنني كفتاة تسعينية المولد، لم أر القرية كما يجب لها أن تكون، وبعد نقاش طويل وانتهاء لقائنا. وجدتني وحدي أمام الكتاب، في مواجهة كتاب حمله القدر إليّ بكل هذا الحب، بعد انقطاع طويل عن القراءة وخوف من المجهول واختلاط الأمور بالنسبة إلي. نظرت إليه طويلا وقررت أن أمنح نفسي فرصة للاختلاء به، وهكذا وقعت في حب خيري شلبي.

……….

الكتاب مصنف كرواية حسب دار النشر، لكنّه أقرب لعدة روايات قصيرة جدًا، وهو الشيء الأكثر إمتاعا، فما إن تندمج في الرواية وتبدأ بنسج خيالك وتوقع الكثير، تنتهي! في الموقف الذي لا يمكن أن يكون بعده شيئا، ويهيء لك أن الرواية كانت طويلة وقصيرة جدا في ذات الوقت.. تعتقد حينًا أن القصص منفصلة عن بعضها البعض. وفي حين آخر تسّلم أننا كلنا نقع في نفس القرية الكبيرة الضيقة جدا.

……….

\”المنخل الحرير\”

القصة الثانية، لكنني بدأت بها لسبب ما في نفسي، لأبحث ربما عن القرية التي أهداني إياها صديقي، وفي القصة لم أجد القرية، وإنما وجدت \”جدتي\”، أو ما تبقى منها.. في الماضي البعيد حيث طفولتي الأولى أو ما أتذكر منها، كانت جدتي تشبه هذه الحكاية، لكنني لم أكن أرى إلا يديها وهي تشكل العجين وتختطف لنا بعضا منه لنلعب به، ثم تصرخ فينا في وقت آخر لأننا نلعب بـ \”النعمة\”.. أراها أمام الفرن الأسود الكبير، والخبز يخرج منه ساخنا.

جدتي تملك الآن فرنا حديثًا، ويغطي أرضية منزلها السيراميك، وتضيأه بالمصابيح الكهربائية، وتبعث بالأطفال ليشتروا الخبز من السوق.. لكن جدتي لم تعد تبتسم مثل ما كانت تفعل في طفولتي الأولى.

أحببت خيري حين أنهيت هذه القصة، هنا بدأت قصة حبي، والمزيد من الندم لأنني لم أعرفه من قبل، ولم أمنحه فرصة ليحكي لي كما يفعل.

\”لا أعرف إن كانت رائحة الدقيق الساخن أم رائحة جسد أمي المشع بالدفء والحرارة؟ أم الرائحتين معا؟ وإذ يشغلني التمييز بين الرائحتين أكون قد ذبت في نوم عميق عميق عميق، وصرت جزءا من موسيقى المنخل الحرير يرسم على الحائط في الضوء العليل ظلالًا من الألحان\”

……….

\”الوتد\”

ليس لدي فكرة كيف صيغت هذه الرواية في \”سيناريو\”، فلم أشاهد المسلسل المقتبس عنها، لكنني أحببت أن أتخيل الشخصيات تحكي وتتحرك وتخرج من الخمسين صفحة \”لتتمطع\” في حلقات أطول قليلا، ولأشاهد المرأة القوية المتمثلة في الحاجة\” تعلبة\”، المرأة التي لن نعرف أن نكون مثلها، والتي يقال إن بلادنا قامت على أكتاف نساء مثلها.

\”قل لحضرة العمدة إنني لست شحاذة أطلب الرزق أو العون من أحد.. قل له يا حضرة العمدة إن الحاجة تعلبة تفيد الناس مما وهبها الله، دون أجر إلا من الله.. وقل له أيضا إن الحاجة تعلبة لا تذهب لمن يبعث في طلبها. إنها لا تذهب إلا لمن تطلبه، فإن كان حضرة العمدة يطلب علاجي فليتفضل بالحضور هنا\”

……….

\”العتقي\”

أبي يخبرني أنني فتاة مدللة، وأن جيلي ولد في دلال، وشهد ثورة من العلم والتطور والترف المادي ما لم يشهده جيله -الجيل الذي يسبقني بثلاثة أجيال- وكنت أتخيل نفسي أحيانا في موقف من المواقف التي يحكيها والدي، والتي نشاهدها على شاشة التلفاز، أكنت أعيش حياة مثل تلك؟ لكنني أعود بتفكيري، لأن الله يخلق كلُ منا في مكانه الذي يناسب طباعه، أو أن أمكاننا هي التي تشكل طباعنا، لن تختلف كثيرا، لكنني أعتقد أنني كنت سأستمتع قليلا إن كنت أفصّل جزمتي الخاصة، يبدو في الأمر حميمة ما، لم يعرفها جيلي، لكن يبدو أن الشيء الذي يجمع بين أجيالنا جميعا أن الحكومات لم تتوقف أبدا عن الكذب.

\”قيل لنا أن خطأ قد حدث في أخذ المقاس، ذلك أن المتعهد أخذ مقاسنا بالمازورة في حين أن نمر الأحذية لها نظام آخر خاص. وقد انتهت أعوام الدراسة كلها ونسينا مشروع الحفاء ولكن أبي لم ينس القرش أبدًا\”

……….

\”أيام الخزنة\”

أنا أكره الفقر، كانت هذه الفكرة التي سيطرت عليّ بينما يجوع الطفل الراوي، فأمسك بطني بدلا منه.. عشت في الخزنة أتوجع من الحشرات، وأقاوم الجوع وأبكي، بل إنني شعرت بالخيانة حين نسي أخي الدكتور الخزنة وما كان بها من شبه حياة.

\”لكن المذيعة حين سألته عن ذكرياته في القرية وبدأ يجيب بدأنا نتوه معه ولا نتعرف عليه، وبدأ خيط الحديث يشرد منا، ثم اقتحمت الحديث أغنية راقصة كأنها تنغز في صدورنا بالإبر\”.

……….

أعرف أنني يسهل إبهاري، لكنني لم أنبهر بخيري شلبي، ليس ذلك الانبهار الطفولي الذي ينتابني بعد قراءة الكتب، لا قلوب تتقافز حولي، ولا يضطرب معدل نبضي.. كل شيء لطيف وهادئ بهدوء القرية التي يتحدث عنها.. ذلك الشعور اللطيف الذي أعرفه حين أشاهد النجوم من فوق سطح بيت جدي.. حين أغلقت الكتاب، بعد مشوار طويل في زحمة المدينة ومكاتب الموظفين، شعرت أنني ممتنة للأرض التي أنتمي إليها، وأنني سعيدة للقرية التي أهديت إليّ من حيث لا أحتسب.

أحببت خيري شلبي، وأحببت راويه الطفل في قصصه الأربعة، وهو ربما ما جعل قلبي يرفرف كلما حاولت أن أتخيل الطفل الحكاواتي، الذي يخبرني بلهفة عن قريته.. أحببت كيف يشكل اللغة فيسحرني، وأتلذذ بإعادة الجملة على لساني.. كيف يخفي الكلمات البذيئة ويعبّر عنها ببساطة، بأنها بذيئة!

أحادث صديقي، أشكره كثيرا، وأقفز بفرحة وأقول له: \”لقد وقعت في حب خيري شلبي، وفي حب قريته التي لم أرها\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top