اعرف صديقا لطالما تساءل عن إمكانية أن لا نمل النعم في الفردوس، وهل سنطيق ثبات الحال؟ حتى وإن كان هذا الثبات ثباتٌ على النعم، فطبع الإنسان ملول، كنت أتساءل معه عن فكرة أن يكون الفردوس هو غايتنا فعلا!
ليس تشكيكا في حكمة الخالق، فلا شك أن له في خلقنا على هذه الحال شأن، ونحن لا ندري على أي حال سنكون إن كُتب لنا الفوز بالفردوس. لكننا نتساءل فقط، فالحديث عن الفردوس دائما ما يكون مجرد خيالات أو بضع أحاديث في موعظة رجل دين وربما همسة أمل بيننا حين يشتد شقاء الدنيا بأن يرزقنا الله الفردوس والتنّعم به، لذلك حين بدأت قراءة رواية أحمد القرملاوي عَجبت من أن أقرأ حكاية تدور أحداثها على أرض الفردوس! فالقرملاوي لم يكتفِ بخيالات الآخرين وحكاياتهم، بل أراد أن يقتحم بنفسه عالم الفردوس وأن يرسمه من خلال حكاية لطيفة في روايته الأولى \”التدوينة الأخيرة\”.
لم يتمكن القرملاوي من كتابة حكاية جميلة وحسب، بل خلق بنفسه عالما مختلف واضعا كل تفصيلاته بدقة، فهو يرسم الشخصيات لتتحدث وتتحرك كما يليق بعالمه، وتلبس ملابس لا نعرفها وتحسب الزمن بمواقيت مختلفة منذ بدء الدينونة: أي انتهاء الحياة الدنيا وانتقال الصالحين إلى الفردوس. فيبدأ بتخيل كيف يكون الفردوس؟ وكيف ستكون طبيعته بعد أجيال من أبناء الصالحين الذين لم يعرفوا أرض العصاة؟ وهل يغدو الفردوس فردوسا حين يلفه الظلم؟ ولماذا قد يتحدث الكهنة باسم المولى في الفردوس؟ فيلقي تساؤلاته عن طريق الجميلة \”تيها\” – إحدى أبطال الحكاية – الفتاة الذكية، التي تكره الظلم وتتساءل دوما كما علمّها معلمها \”ماهيزو\” بأن تسأل طوال الوقت حتى إن كان السؤال به من الأذية ما به، فإن تطَلب منها أن تكتم أسئلتها عن الجميع، فذلك لا يمنعها من التفكر وطرح الأسئلة على معلمها، مثل أن تسأل عن هجرة الطيور الجميلة لأرض الفردوس! فهي تحب الطيور الملونة، لكنّها لا تفهم لماذا تغادر الطيور أرض الفردوس؟ هل هناك ما هو أجمل من أرض الفردوس؟!
يعجب معلمها بها وبأسئلتها فيجيبها بأن: \”الطيور تهاجر بحثا عن المكان الأنسب لها ولطبيعتها، سواء كان في أرض الفردوس أم في غيرها، وأن الفردوس جنة للإنسان، وربما لا يراها الطير والحيوان كذلك!\”، لكن هذه الإجابة لا تطفئ فضولها ولا تسكن القلق في قلبها، لا إجابة يمكنها إسكات القلب القلق، وحين تصارح حبيبها \”شابي\” بهذه التساؤلات ينهرها ويأمرها بأن لا تعترض على حكمة المولى! لكنها لم تسأل عن حكمة المولى! بل عن حكمة الطير في مغادرته أرض الفردوس التي فطرها المولى!
تدور الحكاية عن خوف تيها وحيرتها وقلبها الذي ينبض بحب الطبيعة والبحر المحّرم. وعن ماهيزو المُعَلم الذي تتفتح بصيرته وتصبح روحه أسيرة أفكاره وحيرته. فيلجأ لتلاميذه الذين تقلقهم الأسئلة مثله ولا يعرفون ما يعرفه! فيغامر بكل ما وصل إليه محتميا بصدر زوجته التي تحتضن بلائه وسجن روحه وأفكاره.
\”وأنت ماهيزو، أقدم السجناء!
في المعبد تمكث، سجينا وسجانا.
كنتُ سجّانا قبل أن أرى، ثم ألفيتني سجينا بعد أن رأيت، وسأسعى ما حييت كي أكسر القيد\”
وتحكي أيضاً عن الحب، عن \”شابي\” وسلطته التي فرضها عليه انتمائه لعائلته النبيلة وحبه للمعبد وخدمة الله وتحقيق إرادته التي تُقرر عن طريق المعبد، وتيهته في عشقه للمتمردة \”تيها\”.
فأيهما ينتصر؟ حبه لتيها! أم حبه للسلطة والمعبد!
إبداع أحمد القرملاوي في صياغة الرواية يظهر في بدايتها، حين بدأ بوصف استيقاظ بطلته \”تيها\”.
\”يستسلم كياني لمداعبة أشعة الشمس الملونة على حائط غرفتي، وملاءة سريري، ونشارة خشب الورد التي تكسو أرضية غرفتي\”. لأنك في تلك اللحظة ستتأكد أنك لم تعد على أرض واقعك، وأنك انتقلت كليا لهذا العالم الغريب الذي خلقه لك القرملاوي بسهولة في حكايته. وستبهرك حقيقة أن هذا العمل هو روايته الأولى، وإن سبقتها مجموعة قصصية لم أطلع عليها بعد.
شخصيا.. أحببت عمله لأنه لم يكتف بأن خلق عالما متكاملا بكل جوانبه، وصاغه على هذا النحو، بل واستعمل أيضا لغة رقيقة وجزلة تناسب سكان الفردوس، فتجد نفسك دون وعي قد غرقت معهم في هذا العالم.. ترفل في ملابس طويلة ملونة وغريبة عنك، وتتحدث بطريقتهم وتمشي على شواطئهم مستنشقا الروائح العطرية في الطبيعة المثلى التي فطرها المولى لتناسب الفردوس.. كل هذه التفاصيل ساعدت على أن يخرج لنا بحكاية منسوجة بهذه الرقة، فيطرح من خلالها تساؤلات وإسقاطات متعددة. ربما تختلف من قارئ لآخر، لكّنه يؤكد عقيدة الشك والخوف من اليقين والتساؤل الذي لا يتوقف!
\”البحث طاقة أسكنها المولى في روح البشر، تُطفئها العادة، ويضيء جذوتها الطموح. ولا شك أن عقيدة الحياة البعدية تطمس الطموح، بتجميد الطبقات التي ترسم المجتمع، وتطفئ الرغبة في البحث بكثرة المحرمات، لكن الرغبة في البحث صفة أصيلة في الإنسان، لابد أن تبزغ ذات يوم في قلوب المبدعين من أبناء الفردوس، دونما توقع أو انتظار\”.
إن الكاتب يوجه لك رسالة في حكايته مفادها \”أن حاذر من أن تنام في عسل فردوسك، فتتوقف عن الاستغراب\”.
في النهاية: يؤسفني أن أقول إن رواية \”التدوينة الأخيرة\” للكاتب أحمد القرملاوي إصدار المعرض الماضي، لماذا إذا لم أسمع بها إلا مصادفة؟! ولماذا أعرف أسماء الروايات السيئة؟ أعتقد أننا بحاجة لمراجعة طريقتنا في مهاجمة الأعمال السيئة والتحدث عنها، وبالتالي منحها شهرة لا تستحقها، وتجاهلنا للأعمال الجيدة التي تستحق أن تكتسب شهرة!
والشكر موصول للكاتب الذي منحني هذا القدر من المتعة في حكايته.