ندى القصبي تكتب: إبراهيم نصر الله.. حتى لا ننسى

كنت اتجول بفضول – كعادتي – في المكتبة حين وجدتها.. غلاف مبهر واسم ملفت.. أمسكت بالرواية بين يدي \”أعراس آمنة\”.. أول صفحة، فالثانية.. رفعت رأسي وأخبرتها أني سأشتريها، اعتذرت بأنها طلب خاص لأحدهم، فغادرت ونسيت الأمر.

في معرض الكتاب وجدتها أمامي مجددا – نفس الرواية – كنت قد انتهيت لتوي من \”الطنطورية\” لرضوى عاشور ، وفي المزاج المظبوط لأكمل المسيرة في العشق الفلسطيني.

\”كان يلزمنا قلوب أكبر كي تسع كل هذا الأسى\”

رائحة غزة والجرح الذي لم يندمل بعد في ثوب العرس؟ أول إحساس اجتاحني هو المفاجأة بأن هناك حياة بالفعل! خلف القصف ووراء الدم، هناك أعراس ودفوف.

حمل الغلاف أسماء لسبع روايات تحت مسمى \”الملهاة الفلسطينية\”، فتمنيت أن أقرأها كلها، وسعيت لذلك حتى أنهيتها تقريبا قبل يوم ميلادي كما وعدت.

مررت بهن واحدة تلو الأخرى.. في كل مرة القصة مختلفة.. الأماكن مختلفة.. السرد مختلف.. مرة بصيغة الغائب ومرة بالحاضر، ومرة واضحة وأخرى تحمل من الإسقاطات ما تحمل.

في \”تحت شمس الضحى\”.. كيف يمكن أن تعيش على الحدود؟ تُمنع من الحركة في وطنك! الذي لم يعد وطنك، ولا يشغلك أكثر من رغبتك في حمل الورد؟!

\”يحيرني يا أم الوليد أن الواحد منهم مستعد أن يحمل ربطة ملوخية أو بصل من جنين لرفح دون أن يستغرب أحد ذلك، أما حين يحمل باقة ورد، فإن الناس تبدأ باستراق النظر إليه كما لو أنه دون ملابس كما خلقه الله\”

لم أكتف، وطالما بدأت مسيرتك في الملهاة، فلن تملك التوقف.

في \”طيور الحذر\” ترى الأطفال بشغفهم.. تتساءل ببراءة مثله: \”هل قفصك الصدري هو ما يمنعك عن الطيران؟\” تتساءل وتتساءل، كما ينبغي لطفل لم يعرف طفولته.

\”لماذا إذا نحبس الشيئ الذي نحبه ونترك الشيء للذي لا نحبه\”

في \”زمن الخيول البيضاء\”.. حقبة زمنية مختلفة، الماضي بكل ما فيه من فخر وشرف، والخسارة التي لن نتقبلها لأنه:

\”إذا خسر اليهود فإنهم سيعودون إلى البلاد التي آتوا منها، أما إذا خسرنا نحن فسنخسر كل شيء\”

\”زيتون الشوارع\”.. هي حالة الحب كما يمكن لها أن تكونز

\”لأن كل ما حولنا هنا يريدنا أن نعيش على الفتافيت.. فتافيت الخبز.. الكتب.. الأمل.. الحلم.. فتافيت الوطن، وفتافيت الذكريات\”

\”قناديل ملك الجليل\”.. شرف الماضي.. قسوة الحاضر.

\”إن أسوأ فكرة خطرت للإنسان: أن يكون بطلاً في الحرب، وهناك ألف مكان آخر يمكن أن يكون فيها بطلاً حقيقياً\”

\”مجرد 2 فقط\”.. هل تعرف الألم؟ هو أن لا تعرف من أين يأتيك الغدر!

\”كان ثمة عدو تناطحه ويناطحك والآن وزعوا عدوك في أشياء كثيرة لا تستطيع إحصائها\”

الألم في انتهائي من الملهاة.. كنت اقرأ \”طفل الممحاة\”، وفي هذا شيء من سخرية القدر.. في هذه الرواية ستتردد في رأسك كلمة واحدة.. مصر.. مصر، وكل الخجل والعار المعلق في رقبتك كمصري.

\”لن يعرف الجنود ما حدث فعلا في الحرب، قبل عودتهم إلى منازلهم\”

\”الملهاة الفلسطينية\”.. مكونة من الـ 8 روايات السابق ذكرهم حسب ترتيب قراءتي الشخصية .

ستعرف ما هو الوطن المجهول الذي ربما تحمل معه حدودا لم توّف حق جيرتك كبلاد مثل بلادي.. بدأت رحلتي في التعرف على إبراهيم نصر الله عن طريق الملهاة، وفي منتصف الرحلة عثرت على عنوانه على الـ facebook .. راسلته، فأجاب.. لا يتأخر في الإجابة، يقرأ الحب الذي أحمله ويجيب عنه.

في سيرته \”السيرة الطائرة\”.. كان لعلاقتي به أن تأخذ منحى شخصي.. لم تعد الحكايات عن فلسطين ولا الوطن العربي أو العسكر.. الحكايا عنه هو.. عن الجمال والمدن والشجر والحب والروح.

\”المدن الجديدة، تعلمني الكتابة .. المدن الجميلة، حب أول\”

كنت أظن أني سأكتفي بالملهاة، لكني لم أكتف.. انتقلت لرواية \”عو\”، والتي لا تنتمي لا للملهاة ولا الشرفات.. \”عو\” تحمل تصنيفا خاصا بها.. تكتشف القبح والزيف.. تتعلم ألا ترفع إلا من مات.. في حالة كنت لم تكتسب الدرس من واقعك بعد!

فيما بعد كان علي أن أبدأ في الشق الثاني من كتاباته، \”الشرفات\”.. إن كانت الملهاة تجعلك فلسطينيا، فإن الشرفات تذكرك بمدى قبح كونك عربيا.

\”شرفة الهاوية\”: الحكومة

\”شرفة العار\”: المرأة

\”شرفة الهذيان\” : اللاشيء

وتبقى شرفة الفردوس وشرفة رجل الثلج، لم أقرأهما بعد.

ودواوينه الشعرية التي لا يمكن الحصول عليها هنا.. في بلاد كهذه طال العفن إصدارات الكتب وطبعاتها أيضا.   .

\”براري الحمى\”.. روايته التي بحثت عنها طويلا لا تزال بين يدي.. حمى الغربة.. والدي وأنا.

\”طائران في قفص يبحثان عن الحرية كل في الآخر\”

لم أكتف منه بعد ، ولن أفعل.. بشغف احمل كتابا وراء الآخر على أمل اللقاء المؤجل على شاطئ يافا.. متحررة من أقسى ما كنت أواجه في كتب إبراهيم نصر الله، وهو الخوف والرعب من لحظة النهاية.

كنت أظن أن المجهول هو الأكثر رعبا، لكن ما الذي ينافس الخسارة الواضحة والنهاية البائسة المعروفة جيدا؟

في المعارك، كنت أبتهل ثم ينكسر الفؤاد في اللحظة التالية.. أعرف النهاية جيدا.. لقد ولدت فيها!

لن يغير إبراهيم نصر الله بنهاياته شيئا، لكنه حفر التاريخ في قلب الصبية التي لم تعرف فلسطين.. أذاقني البرتقال والزيتون، وكدت أشم رائحة الشجر.

قال في لقاء له إنه كان يريد أن يحفظ لفلسطين تاريخها في القلوب الفتية، خوفا من أن تنسى القضية بالتقادم، وقد كان.. حفظها بكتبه في قلبي، وسأحفظها في رحمي لتبق حية.. مادمنا نسأل، ونرفض، ونعيث فوضى هنا وهناك، حتى يعلو الصوت فوق الموت: عندما يكون الواقع أجمل.

كما أخبرني في حديث شخصي، تعقيبا على رواية \”شرفة العار\”: \”كنت اتمنى ما تمنيته أنتِ.. أن يكون الواقع أقل قسوة، لتكون الروايات أرقّ.. لكننا سنحاول أن نجعله كذلك\”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top