وضعت نظارة أبي وأمسكت الكتاب محاولة أن أقرأه، وحين عجزت، سألته ببراءة: لماذا لا أستطيع قراءته بعد؟ كنت أظن أن نظارة أبي سحرية مثل أي شيء يتعلق به وأنها ستجعلني أجيد قراءة الكتب الكبيرة بمجرد أن ألبسها، ضحك والدي وأخبرني أن أنتظر وأن الكتاب ملكي وسيظل في المكتبة لحين أستطيع قراءته. وحين نضجت أكثر، تقريباً في صفي الثالث الابتدائي، بدأت قراءة هذا الكتاب، والذي كان أول كتاب أقرأه:\” قصص السيرة النبوية للأطفال \” – محمد موفق سليمة. لاسمه رنين في قلبي، إذا بحثت عنه، فلن تجد إلا القليل، شيخ سوري الموطن مواليد 1950. كان وقت معرفتي به إماما لمسجد في مدينة الرياض- المملكة العربية السعودية، وعرفت فيما بعد أنه كان معلماً لفترة طويلة تقارب العشرين عاما قبل هذا، ولا أعرف شيئاً عن مصيره الحالي، ولم أجد مصدرا يمكنني معرفة شيء عنه، متجاهلة بعض الإشاعات التي سمعتها عن سجنه، كان شيخي الأول كما أحب أن أعرف به وأديبي الأول أيضاً، مبدع عرف كيف يجعل الطفلة التي تقرأ المجلات الملونة والقصص القصيرة ذات الصور أن تقرأ كتاباً صفحاته تقارب الـ 500 صفحة، لا يحتوي على صور، ويتحدث عن موضوعات دينية قد تكون جامدة بالنسبة لطفلة، لكنه بأسلوبه المختلف استطاع أن يحقق حلمه ويكتب للأطفال، متجاوزاً بإنتاجه 400 عمل ما بين حكايات ومسرحيات وديوان شعر. وكلها موجهة للأطفال، مستحقاً بذلك لقب أبو البراعم الذي لقب به نسبة لتسميته للأطفال بالبراعم التي تستحق الرعاية.. في صفي الرابع ذهبت مع أبي لزيارة \”عمو جمال\” – صديق والدي. وأخبرني أن هناك مفاجأة تنتظرني، وعندما دخلت المنزل وجدته هناك، شيخ كبير قد أبيضت لحيته وشعر رأسه، تعلو ثغره ابتسامة كأرق ما يكون، يتحدث بهدوء وبتنويع صوتي مريح جداُ، بدون مبالغة كانت هذه فكرتي الطفولية عن الرسول عليه الصلاة والسلام. ومع فارق التشبيه، إلا أنني مازلت مصّرة أنه – الشخص الذي عرفني على \”محمد\” عليه الصلاة والسلام – يشبه تصوري عن الرسول كثيراً. كم الانبهار الذي شعرت به وأنا أجلس في نفس المجلس معه يحادثني عن الكتب والصحابة وكل ما أحبه، وعيناي تلمعان بقربه، فرحة الطفلة بأديبها وشيخها الأول، ولم يخب ظني به، فكعادة أصدقاء والدي كنت أشعر بينهم وكأنني طرف في جلستهم.. راشدة تستحق المناقشة ولست طفلة، استمر بنا الحوار، وفي نهاية الحديث أهداني كتابه \”قصص القرآن\”، وهو يقول: يحتوي الكتاب 30 قصة يمكنك قراءته خلال شهر يا بنية، بواقع قصة كل يوم.
نظرت إليه نظرة بلهاء، وضحك والدي قائلا: لن تصبر ليومين حتى تنهيه، ولفرط حماستي البادية على وجهي، أهداني عمو جمال كتابا آخر له، \”مسرحيات للبراعم المؤمنة\” في نفس اليوم، وهي قصص من قصص الصحابة صاغها هو كنصوص مسرحية، مازلت أحتفظ بالكتابين في مكتبتي أما كتابي الأول فضاع مني حين أعرته لإحداهن، لأتعلم أول دروسي في القراءة \”لا تعيري كتبك لأحد\”.
أستطيع القول الآن أن لهذا الرجل الفضل الأكبر في تربيتي وحبي للكتب، وربما حبي للطفولة وامتهاني فيما بعد مهنة لها علاقة بهم، ورغبتي الدفينة أن اكتب لهم، نشرت له سلسلة مكونة من 10 كتيبات بعنوان \”الوصايا العشر\” من ضمنها وصية: اجتهد أن تتكلم الفصحى، لا تكثر الجدل، تعّرف إلى من تلقاه.
أذكر هذه الوصايا جيداً بالرغم من مرور ما يقارب الـ12 عاما منذ قراءتها، ويمكن أن تستنتج بعض الآداب والتربية التي تلقيتها من هذه الكتيبات، والتي أود فعلا أن أنقلها لتلاميذي، لكن لسوء الحظ لم تنتشر كتبه في مصر، وإن كنت أتمنى أن أجدها، لكن يؤسفني أن أقول أن العثور على أي من إصدارات كتبه التي كانت متوفرة بشكل ما في طفولتي الأولى يقارب المستحيل الآن، لكني اكتشفت مؤخرا أنه لم يكتف بالكتابة وأن له تسجيلات صوتية يحكي فيها هذه الحكايات للأطفال – هنا مقدمة لتسجيلات لكتاب قصص القرآن:
وحاولت الوصول لهذه التسجيلات، فوصلت لهذا الموقع يجمع بعض هذه التسجيلات متاحة للتحميل:
لم أكن استمعت لهذه التسجيلات في صغري، كنت قد اكتفيت بالقراءة، وبرحلات الذهاب إلى المكتبة أنا ووالدي باحثة عن كتيباته الـصغيرة وقصصي المصّورة، وحين حاولت الآن أن أسمعها، أنتابني مزيج من الحنين والشوق لطفولتي، ولهذا الرجل الذي ألتقيته مرة واحدة، وملأ حياتي بكل هذا الكم من المعلومات والقيم، وأنار طريق القراءة أمامي، والآن وقد بلغت هذا العمر، وأصبح من مسؤولياتي حكي القصص للأطفال، لا الإستماع إليها فقط، عرفت كم كنت محظوظة لأنني عرفت هذا الرجل.