(1)
تقودني الذكرى إلى هذه اللحظة التي ترصد حلما يحجل على الحافة، صوت فيروز ينبعث في الخلفية: راجعين يا هوى، بينما وقفت أنا عند بوابة فاطمة في الجنوب اللبناني، وراء سلك شائك يفصلني عن فلسطين، حملت في قلبي كل حكايات الحرب والمقاومة وفي كفي حجر ألقيته بضربة طائشة تجاه المستوطنات الاسرائيلية على جبال الجليل، تقليد اعتاده الزوار منذ تحرير الجنوب في العام 2000، كأنهم قبل فورة الغضب يخمدون الجروح، وحين مددت ذراعي عبر السلك الشائك أخمش التراب الفلسطيني في أقل من عشرين ثانية كانت هي لحظتي البرزخية بين عالمين: عالم تورق فيه أشجار الحنين ولا يغض الطرف عن خطوات الأهل والأحباب، وعالم الملح والدم والغطرسة الصهيونية، نهاني الرفاق وشدوا ذراعي: على الجبل قناص اسرائيلي. نظرت، فانكسرت نظرتي على مستوطنات زرعت فوق الجليل الأعلى.
(2)
علي شاشة التليفزيون، يتدفق الدم ويغطي حفنة من رمل سيناء البعيدة/ القريبة، المشهد يتكرر وأعلام تغطي جثمان وراء آخر، والصورة على الشاشة تتسع وتزيد فيها التفاصيل، سيناء علي الشاشة أكبر من الكلمات العاطفية في الأغنيات؛ تقف على البرزخ الذي يفصل الأمس والغد، والعدو الجديد ينسل من خيوط العدو القديم، أتابع المشهد المتكرر وأقلب بين يدي خطاب قديم مرفق بـ\”كارت\” عليه رسم خريطة مصر وعند سيناء زرع العلم المصري محاطاً ببقعة دم كبيرة، الخطاب و\”الكارت\” أرسلهما خالي الكبير فاروق (رحمه الله) إلى أبي من الجبهة أثناء حرب الاستنزاف، وخالي الذي حارب في 67 والاستنزاف و73، تهزني كلماته حين يصف أحلامه هو ورفاقه للوصول إلي أرض سيناء الغالية وتحريرها من قبضة الصهاينة، يقول :\” لن يهدأ لنا بال حتي نطهر سيناء ونستردها ودمنا هو جسر الوصول إلي سيناء\”.
(3)
ما زال الجدل دائراً حول ما تردد عن أحد أفراد البعثة الألمانية والتي تقوم بأعمال حفائر وإعادة بناء الكتل الحجرية بمعبد \”أوزير نسمتي\” والذي يعود للعصر الروماني بجزيرة ألفنتين في أسوان، حيث قام المذكور؛ ويقال أنه يهودي، بحفر نجمتي داوود على كتلة حجرية بأسوان، وقد صرح المسئولون بأنه تم إزالة الكتلة الحجرية على الفور وحُذرت البعثة بإيقاف عملها في مصر.. الكلام يستمر ويستمر ويستمر ولا شيء يمكن التمسك به سوى الكلام.
(4)
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجةُ! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل\”
هكذا أنشد الشاعر الفلسطيني محمود درويش ليوم الأرض في قصيدته الشهيرة لتخليد ذكرى أول انتفاضة شعبية بعد نكبة 1948، حيث خرج سكان القرى في الجليل إحتجاجاً على مصادرة أراضيهم وتهويدها.
محمود لم يعش الحدث الذي وقع في ربيع 1976 منذ 38 عاماً، لكنه كان تخيله شعراً وعايشه وجدانياً، فهو ابن قرية البروة التي هجرها طفلاً في السادسة وسجل رحلة خروجه مع والده في ديوانه البديع \”لماذا تركت الحصان وحيداً؟\”، وهو سؤال يسأله الصبي محمود لوالده، فيجيب الأب \”لكي يؤنس البيت يا ولدي/ لأن البيوت تموت إذا غاب سكانها\”، لكن الصهاينة سرقوا البروة، وحملت اسماً يهودياً مثل معظم قرى الجليل التي انتفضت في يوم الأرض ونظمت أول إضراب واحتجاج عام ضد سلطة الاحتلال، وتحت إجراءات القمع وحظر التجوال سقط العديد من الشهداء واعتقل العشرات، وتأثر درويش كثيراً بالحدث، وخاصة بلحظة استشهاد خديجة قاسم شواهنة التي خاطبها وخلدها في قصيدة الأرض:
\” أنا الأملُ والسهلُ والرحبُ – قالت لي الأرضُ والعشبُ مثل التحيّة في الفجر
هذا احتمالُ الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني
يريد الهواء الجليليّ أن يتكلّم عنّي، فينعسُ عند خديجة
يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرسُ ظلّ خديجة وهي تميل على نارها.
يا خديجةُ! إنّي رأيتُ .. وصدّقتُ رؤياي تأخذني في مداها وتأخذني في هواها. أنا العاشق الأبديّ، السجين البديهيّ. يقتبس البرتقالُ اخضراري ويصبحُ هاجسَ يافا
أنا الأرضُ منذ عرفت خديجة
لم يعرفوني لكي يقتلوني
……..
ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت.
خديجة! لا تغلقي الباب!
إن الشعوب ستدخلُ هذا الكتاب وتأفل شمسُ أريحا بدونِ طقوس.\”
كانت خديجة في الثالثة والعشرين من عمرها، عندما خرجت عدة أمتار أمام بيتها أثناء حظر التجوال، ولما دوى الرصاص زعق صوت أبيها يناديها، وهرولت أمها ناحيتها فاتحة ذراعيها، ورأت خديجة طابوراً من جنود الاحتلال المدججين بالسلاح فعادت تهرول فاتحة ذراعيها نحو أمها، وقبل أن تدخل حضن الأم، اخترقت ظهرها رصاصة غادرة، فسكنت حضن الأرض إلى الأبد.
ربما كان درويش يغبطها، لأنها عانقت أرض المستحيل التي تمنعت على درويش ولوعته بالفراق:
\”بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كسجني!
…..
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيدُ الخريطة
أنا زهرةُ المشمش العائلية.
فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
من البدء حتّى الجليل
أعيدوا إليّ يديّ
أعيدوا إليّ الهويّة!\”
هكذا كانت الأرض هي مفتاح الهوية، وهكذا كان يعرف القريون في سخنين وعربة والبروة وغيرها من قرى الجليل أن الأرض لأشجار الزيتون وليس لمستوطنات القادمين من الشتات عبر البحار، لكن نتنياهو لايزال يلتهم الأرض الفلسطينية دونماً دونماً، ويبتلع الزيتون ويسد روح الأرض بالحجارة والعنصرية والتعصب، في الوقت الذي يتمسك فيه سكان فلسطين بصوت درويش وهو ينشد:
\”هذا الترابُ ترابي
وهذا السحابُ سحابي
…….
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرضُ في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!
………
فهل يمر الأعداء على جثث الشهداء.. أم تبتلعهم أرض الأنبياء وتوفي بوعدها الدرويشي؟
(5)
قال لها : ابتعدي عن ابني .. خليه يختار بنفسه. يحب مين أو يكره مين. اختياراته لازم تكون من دماغه. بلاش كل شوية تقولي له اسرائيل .. اسرائيل.
قالت له : تصطفل انت وابنك.
نظر الولد ذو السبع سنوات لأمه ثم لأبيه وقال : بابا أنا خلاص اخترت .. أنا باكره اسرائيل.
صوت الشيخ سيد درويش في الخلفية:
أهو ده اللي صار
وآدي اللي كان
مالكش حق تلوم عليّ…