ناهد صلاح تكتب: "يونس ولد فضة".. ماحدش يقدر يقتل عاشق

\”أنا زي العقاد، اتعلمت كل حاجة في بيتنا\”، يقولها يونس باعتزاز لا يخلو من غطرسة، وهو يفتت أسئلة زوجته رضوى ببساطة، ويغلق أبواب دهشتها من \”فذلكته\” رغم عدم تعليمه وحصوله على أية شهادة، وذلك قبل أن يرمي في وجهها جملة تولستوي: \”الجميع يفكر في تغيير العالم، ولكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه\”، وهو ما يصنعه يونس ولد فضة على خلفية أحداث المسلسل الذي يحمل اسمه، وكتبه عبد الرحيم كمال، وجعل العبارات المقتبسة لمشاهير الأدب والفكر طقساً يلازم شخصية يونس، فينطق كلمات شكسبير وآرثر ميللر وأينشتاين وغيرهم دون تمهل أو صبر، وكأنه يعبر أزقة غربته في الأرض التي زُرع فيها، بينما تحمل هذه العبارات هواجسه، ربما تعينه كي يفاوض المجهول، علّه لا يصنع تراجيديا مكررة عن الأمس.

عبد الرحيم كمال يكتب بلغة خارج السرب، ويرسم صوراً لصعيد لم نعرفه جيداً في مسلسلات سابقة: مفرداته، فضائه، نبضه، شخوصه، وعاداتهم وأزيائهم والمراوغة التي تندس بين الأحاديث واللهجة تكسر ما عهدناه قبلاً، والتنوع في إيقاع الحوار الذي يكاد يقترب من الشعر أحياناً؛ خصوصاً في سيرة العشق وما يطرزها من لوع ووجع، وتصاعد الحدث في موضوع إنساني يدل على جغرافيا المكان ويطل من بين شقوقه، لكن الصراع أكبر من البُعد الحدودي؛ هو صراع له عمقه الوجودي الذي يجنح نحو الخائف حين يركض عكس الريح ويندس بين الكارهين حتى يقضيّ الله الأمر المفعول، ومن المؤكد أن الأمر لم يكن بالنسبة له نزهة، على الرغم من محاولاته لتخفيف الأمر بحضور قوي وحيوية تفيض عن المعنى، هو الإطار الذي رسمه عبد الرحيم للشخصية المحورية؛ فبدا يونس كمن يرقص \”فلامنكو\” بتضارباته العنيفة ومزاجه اللاهي وهذيانه وحالاته الخارجة عن السيطرة أحياناً، ما يجعلني أنتصر هنا للكتابة كما مست شغفي بالاحتياج إلى نصوص مكتوبة تعيد إلى الدراما عموماً ألقها، وتمنح المخرجين فرص تكوين صنيع بصري يوازي الموضوع، كما المخرج أحمد شفيق في هذا المسلسل، والذي ساعدته مفردات وأيقونات مكان يتغير وتتباين بين الثراء والفقر وتتجلى في شكل البيوت والحياة التي تغيرت في جنوب مصر كما في مصر كلها وفق تغير عام نال من كل أنساق الحياة، ليبرز الطمع وتزيد فوضى تجارة السلاح والآثار، فيما تتقلص مساحة الأخضر لصالح الخراساني في زمن المحمول والألعاب التكنولوجية -البديل الجديد- للتواصل ولتعليم الأطفال لكي يتعلموا في بيوتهم بطريقة أخرى غير طريقة العقاد.

إبراهيم، الطفل الصغير تموت أمه ويهجره والده الفقير، ليصبح هو المسئول عن حمايته لشقيقتيه، مسئوليته التي تجره للدفاع عن شقيقته الكبرى ضد من يتحرش بها وتورطه في قتل والد المتحرش دون قصد، ويونس هو طفل آخر ابن \”فضة\” الذي يموت ويموت كذلك والده، بينما تتخذ فضة بكل عنفوان التحدي والانتقام الصغير إبراهيم الهارب المذعور بديلاً، وتحوله إلى يونس الذي يواجه أعمامه وزوجة الأب، ويتقاسم معهم الميراث، ويصبح \”يونس ولد فضة\” الذي يسير في حياته كما ربته فضة، يكيد لأعمام ليسوا له، ويتاجر في السلاح، ويتوسع في الثروة، ويتزوج امرأة لا يحبها، ويطارد أخرى يعشقها، وينجب ولداً يسميه إبراهيم، ليربطه الاسم بماضيه وجذوره التي لم ينسها، ويفتش عن شقيقتيه.. يقسو قلبه على أعدائه، بينما يصبح أكثر الكائنات خفة مع حبيبته وابنه، مزيج من الصلابة والرهافة وخفة الظل في دور حظي به عمرو سعد: \”ماحدش يقدر يقتل عاشق، العاشق عمره طويل، مايقدرش عليه غير اللى خلقه\”.

وفي المقابل يستيقظ غول التمثيل داخل سوسن بدر، ونلمسه في كل نظرة والتفاتة كامرأة قوية مثل بيئتها، لا ترضى بالانكسار وتحرص على إبراز الجمال في شكلها قدر حرصها على إخفاء أي ملمح ضعف أو هزيمة، مباراة في التمثيل شاعت بين فريق العمل: صفاء الطوخي، محمد التاجي، أحمد حلاوة و.. الباقين، الكل في حدوتة يرويها عبدالرحيم بحميمية الحواديت القديمة حتى من عنوانها، وبدت فيها المونولوجات القصيرة والحوارات كما لو أنها عناوين لموضوعات عدة حول الحب والجمال والذات الانسانية، ما يكشف عن وله الكاتب بالجمال، فيخوض في  جذوره عبر أسئلة فلسفية وأدبية في كتابة إبداعية تعتمد على الواقع بتغيراته، لكن يغذيها خيال القص الذي يلتقط أشياءً لا نراها في حياتنا اليومية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top