(1)
كان الولد في السادسة من عمره حين راح يراقب أمه التي جلست أمام شاشة التليفزيون وعيناها تروح وتجيء مع تفاصيل الصورة: مدرعات تطارد بشر عُزَل، إلا من أصواتهم وبعض الحجارة في أياديهم، المدرعات والسيارات المسلحة تزيد من سرعتها وتدوس البعض، فيما ينتشر دخان البارود والقنابل المسيلة للدموع، والأم تتحول إلى امرأة عاطفية تكاد تلتحم بالشاشة، وهي تستنهض كل الغضب بداخلها في اللحظة التي تمد يدها على صورة طفل صغير يفلت من يد جلاده بعد أن قذفه بحجر.
محظوظ من يقدر أن يستنهض من جوف مظلم بريق أمل.. من الوجع إصرار أكبر على الحياة؛ تقولها الأم الغاضبة وهي ترد النظر إلى ابنها الصغير بجوارها، ويتبدد غضبها بلمسة منه، قبل أن يفاجئها زوجها بجملته الصاعقة: ابتعدي عن ابني، خليه يختار بنفسه وبدماغه.. يحب مين أو يكره مين، بلاش كل شوية تقولي له إسرائيل.. إسرائيل.
ردت الأم بحسم: تصطفل إنت وابنك.
نظر الولد الصغير (موضوع الخناقة المفتعلة) لأمه ثم لأبيه، وقال: بابا أنا خلاص اخترت، أنا باكره إسرائيل.
(2)
كبر الصغير وزادت سنواته الضعف، وقامت ثورة في أنحاء البلاد، ولازال حلمه في بطل يخلصه من المشهد القديم للمدرعة الإسرائيلية تطارد أطفالًا وشبابًا، وكلما سأله أبوه عما يجلبه له قبل عودته للبيت: \”عايز أيه؟\”، كعادته يجيبه سريعًا: \”عايز سبايدر مان وبات مان\”، حتى فعلها المواطن المصري البسيط أحمد الشحات (سبايدرمان المصري كما أطلقوا عليه) في متتاليات الثورة المصرية، وتسلق مبني السفارة الإسرائيلية، وأنزل العلم الصهيوني، ثم رفع العلم المصري، وصار الشحات بطلًا خارقًا في نظر الصغير الذي نشأ على مشاهدة أفلام الشخصيات الخارقة، ولم يتعرف يومًا على صورة لقائد تاريخي قادر على اتخاذ قرارات مصيرية لصالح شعبه ومجتمعه.
(3)
اندفعت السنون حتى العام 2012، وصار لدى الصغير حسابه الخاص وصفحته على \”فيس بوك\”، كتب عليها \”زعلان عليكِ يا مصر\” واكتفى.
من العالم الافتراضي إلى الواقعي؛ الكل -صغيرًا وكبيرًا- اقتسم الزعل ورثاء الضحايا، والولد الصغير التفت على ذاكرته الصورة القديمة للطفل الفلسطيني والحجر.
(4)
صار الصغير طالبًا في الثانوية العامة، كبر وشب الولد؛ لكن لا هو أصبح \”سوبر مان\”، أو\”بات مان\”.
يعدونه بعد ثورة رآها بعيني عمره الصغير؛ ليكون مواطنًا بالمواصفات القديمة، من سكان هذا البلد الذين يحاذون الحوائط والجدران وينطقونها (نعم) وفقط، لكن المشيئة جعلته ينفذ المشهد التليفزيوني القديم لطفل فلسطيني يجري أمام مدرعة إسرائيلية، ليكون صبيًا مصريًا يفر من الشرطة المصرية.. هو لا يرى نفسه بطلًا، وإنما فقط أراد ألا يكون نسيًا منسيًا، وألا يتسرب مستقبله من بين أصابعه دون مقاومة، كما تتسرب أسئلة الامتحانات أمام عجز منظومة تعليمية، لا مسئول فيها قادر أن يستنهضها من \”نومة\” أهل الكهف.
يجري الصبي ويصرخ: \”ياللى بتسأل إحنا مين؟ إحنا الطلبة المظلومين\”.
(5)
يختلط صوت شادية بصوت محمد منير بأصوات المجاميع وتتسرب الحروف:
يا عيني يا عيني يا عيني ع الولد
الواد كان أي عيل في عيال ناس البلد
جسمه برضك قليل زي عيال البلد
يهوى صوت السواقي لما تملى البلد
زي عيال البلد.. والقلب أخضر مزهزه
لا مكر ولا حسد.. زي عيال البلد
يا عيني يا عيني يا عيني ع الولد