(1)
في الصباح، ذهبت إلى محل البقالة الصغير في الشارع الخلفي لبيتي، هذه البقالة التي تبيع بأسعار أرخص عن مثيلاتها واكتشفتها -صدفة- أثناء جولاتي المتكررة للمشي في الشوارع الخلفية لأنها الأكثر هدوءً، كما اكتشفت هذه الصورة المعلقة على جدار جانبي بالداخل. أحدق جيدًا في الصورة وأتأمل صاحبها: انحناءاته الصغيرة، آثار التعب وروافد الحزن المحفورة على الوجه، وجهه ذو الطراز القديم -نوعًا- كبورتريه في أحد الصالونات العتيقة محملًا بالقصص وأهوال الزمن، نصف الابتسامة المواربة هي الشعاع المباشر بينه وبين الآخرين، كما لو أن الشارع يعبس في وجهه فيبتسم كرسول ويواصل المسير كأنه يتباهى بجرحه أو بابتسامة تحميه من القهر، أما في عينيه الشاردتين فيمكن أن تبصر الحزن يحترق في مقدمة فهرس طويل يحتوي كل التناقضات: قيد وحرية، جرح وأمل، جفاف ومطر، عمق وبساطة، زهور وقنبلة و. و. كل شيء ونقيضه يصنع كائنًا من لحم ودم وفن اسمه نجيب الريحاني يشتهي السعادة كسؤال فلسفي أرق الجميع: فلاسفة وعوام.
يقول سقراط: سر السعادة لا يتم في السعي إلى المزيد ولكن في تنمية القدرة على التمتع بالأقل. ويقول أفلاطون: الرجل الذي يجعل كل شيء يؤدي إلى السعادة يرتبط بشخصه لا بالآخرين يملك أفضل خطة ممكنة لحياة سعيدة. ويقول أرسطو: السعادة تعتمد علينا نحن. ويقول نجيب محفوظ: لن تعز السعادة على من يطلبها بصدق. فيما يتساءل اسماعيل ياسين مغنيًا من ألحانه وكلمات أبو السعود الإبياري مونولوجه الشهير \”صاحب السعادة\”:
كلنا عاوزين سعادة
بس إيه هي السعادة
و لا إيه معنى السعادة؟
قوللي يا صاحب السعادة
قوللي. قوللي
أما نجيب الريحاني فيرد على الجميع: أنا كده. حظي كده. ربنا خلقني كده.
لم اسأل البائع لماذا يعلق صورة نجيب الريحاني، ولا يعلق مثلًا صورة لرئيس أو زعيم أو حتى صورة لشيخ أو قديس؟ تجاوزت أسئلة من هذا النوع وشعرت أنها لا تعنيني، بينما رحت أفتش في وجوه المارة عن وجه بسيط، إنسان لديه هذا التكوين الآدمي العادي كما وصفته لنا الحواديت القديمة أو كما رأيناه في أفلام الأبيض والأسود. مرح، لطيف، نبيل، مخلص لحبيبته، وفيُ لعائلته، محب لمجتمعه. لا حقد ولا ضغينة ولا تصريحات كاذبة لمسؤولين سياسيين ولا عنف ولا خوف من صيادين لعواطف النساء خوفًا لا يقل عن السيارات المفخخة أو عصابات سرقة الأعضاء.
(2)
في الظهيرة غضبت ورحت أدب على الأرض، سرقت المكالمات الهاتفية نهاري وأنا أدب على الأرض، تعطل المصعد فنزلت السلم وواصلت أدب على الأرض، خرجت إلى الشارع وكنت لازلت أدب على الأرض، دلفت إلى التاكسي فنظر لي السائق في المرآة وسألني بابتسامة خبيثة: \”حضرتك مسلمة ولا مسيحية؟\” صرخت ووجدتها فرصة لأدب على التاكسي. لا أعرف سر \”دبتي\” على الأرض ولم أستطع أن أتحرر منها طوال حياتي. أفرح بأقصى ما استطعت وتشاركني \”الدبة\”، أحزن بكامل الحزن وترافقني \”الدبة\”، إنها رفيقتي تنهض معي صباحًا وأظنها تفرك جفونها مثلي وتؤدي نفس حركات القطط عند الصحو ثم تحملق أمامها وتقول في المطلق شكرًا. \” دبدبي على الأرض براحتك. دي إشارتك للحياة\”، كان يقولها لي أستاذي باستمرار في صباي، إذن \”دبتي\” هي حياة، كانت جدتي تمسك بمسبحتها وتستغفر الله وهي تنظر لي وأنا طفلة صغيرة لا أكف عن \”الدب\” أمامها وتقول بحسم: كفاية. إنتي أصبحت شبه الغجرية.
الغجرية \”حياة\” اقترن اسمها بأفعالي. روحها بروحي، فصرت أنا غجرية أم حياة؟ لا أعرف، لكن لدي يقين بأنه لو عدت يومًا إلى ما كان سأختار إنفعالي الحر ولن أبالي برؤية الآخرين، سأكرر البدايات و\”دبة\” الحياة. فتاة حرة تسير منكوشة الشعر فتشعل الشارع في بلادي البعيدة والقريبة، هي حلم مالح صعب التهامه، صوت يحفر كل دروب الوجدان وصمت يكسر الريح وعينان تتسع لاحتواء كل البشر وتشتهي واحدًا فقط، ربما تعبت من التجوال والسفر لكنها تمارس طقوس حريتها وتقتنص الفرصة لترقص على أنغام أحلامها وتقرأ \”الفال\” للجميع وتحكي عن سكة السفر الطويل وتعدهم بالأفراح القادمة وتمنحهم حجاب المحبة من تعاويذ الغجر. الكل ينجذب إليها، يحبونها ويخافونها. أمواج من المشاعر المتقلبة وهي تدرك ذلك فتضحك وتتمخطر وتضبط إيقاع الحياة بدبة قدمها ورنة خلخالها.
أما أنا فأمشي طائشة في الشارع، أدرب نفسي كيف أهزم مخاوفي وأحاول ألا يدجني الزمان، أدق بكعب حذائي فأصبح حرة أكثر مما تصورت وأفعل كل الأشياء على عجل.
(3)
في المساء ذهبت إلى السينما وشاهدت فيلم الأمريكي \”لا لا لاند\”، سحر الموسيقى والرقص والألوان والتوغل في أرض الخيال والأحلام، لذا لما خرجت من الفيلم؛ شعرت أن رأسي كاد ينقسم نصفين، نصف يشعر بالاغتراب والتمزق بين الحلم والواقع أو كما يغني محمد الحلو في مقدمة مسلسل \”أديب\”:
لا مرسى. لا عنوان
ولا قلة للعطشان
وتهت بين السما والأرض يا إنسان
والنصف الثاني يؤكد على الحيرة والتوهة، حيث جعلني أشبه بأبطال الفيلم الأمريكي \”The Others\”، نيكول كيدمان وأطفالها الذين كانوا يظنون أنفسهم أصحاب المنزل الأحياء، وتحاول الأم أن تحمي أسرتها من الغرباء والأشباح، لتكتشف ونحن معها في نهاية الفيلم أنها وأسرتها هم الأشباح. في هذه اللحظة أشعر أنني مثل نيكول كيدمان \”طلعت مش من الناس دول همة، لكني من الأشباح دوك همة\”. أنااااا The Others. ولا حد فاهم حاجة. وإن كان صوت محمد الحلو لازال يرواغني وهو يتماوج بكلمات سيد حجاب وألحان عمار الشريعي:
غريب فى عالم غريب. والغربة بتعلم
فوق القلوب والجبين. الغربة بتعلم
والغربة خلتنى أحس الجنة. أحس النار
وكنت باتألم. أحسب روحى باتعلم
أتارينى يابا. بلعت الطعم والسنّار