ناهد صلاح تكتب: والنبي ناولوني الولاعة

لا أشعر برغبة في الكتابة ولا أن أتسلق قاموس الكلمات وأعبر جسورها التي تتفتت يوميًا بعواصف الأحداث السريعة جدًا في هذا العالم، فلا أجدني سوى أنني أركض وراءها وألهث حتى تنقطع أنفاسي، فما إن أدخل حدثًا وأمسك خيوطه حتى يضربني ما هو أقوى منه وأشد قسوة، أتخذ وضعية المتأمل في اعتذار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير واعترافه بالإدانة في تقرير بلاده عن العراق والذي تسبب في تدميره؛ بينما بلير يرتع في حريته دون إدانة حقيقية أو الاعتراف بأنه مجرم حرب، وتنهال على رأسي مشاهد غير رحيمة تنتهي بسقوط بغداد وذوبان الجيش العراقي في تيه الجغرافيا والتاريخ بالتوازي مع الأسئلة الطاحنة عن الخيانة، حتى أتحجر أمام المشهد الموجع لإعدام صدام حسين وأتتبع مسار رجال قريتي الصغيرة إلى المسجد الكبير لصلاة العيد وهم منكسي الرأي؛ بل إن بعضهم أجهش بالبكاء كأنهم يحاولون أن ينفضوا أو يزيحوا صخرة عن صدورهم التي لم تحتمل سعير العنف والدم، الأمر لم يكن يخص صدام حسين شخصيًا؛ ومع ذلك كان أمرًا شخصيًا بالفعل يخص العراق التي قضوا فيها نصف أعمارهم، يخص شبابًا لم يجدوا فرصة للعيش الكريم في بلدنا الفقيرة، فذهبوا لمحاولة إيجاد حياة أكرم يصنعونها بسواعدهم في العراق الشقيق كما في ليبيا الشقيقة والخليج الشقيق و. و. وعلى حسب الأغنية الشهيرة \”كل بلاد العرب أوطاني\”، كبر الصبيان والشباب وصاروا رجالًا تجدف بهم الحياة العالمية الجديدة ولا تستقر بهم على ضفة، أخرج من المشهد العراقي إلى اليمن الذي ما إن وعيت على هذه الدنيا وأنا أجتهد لأعرف ما الذي أسعده ليكون \”اليمن السعيد، وأتذكر ذلك الرجل اليمني صاحب دكان الفضة الصغير الذي رفض أن أدفع له مقابل الحلق الفضة الذي أعجبني في فاترينته وقال لي إن هذا إكرامًا لمصريتي ولعبد الناصر، ومن اليمن إلى عبث الأحوال في ليبيا وإلى قسوتها ومرارتها في سوريا وقلبي الذي يخفق بالجرح السوري ولا يتخلى عن أحزانه المتوارثة في فلسطين؛ وعصف رأسي يقذفني بالسؤال: هل عواطفي وحدها تكفي للكتابة؟ وقبل أن أفتش عن إجابة أو حتى أهرب من فخ السؤال؛ يهتز العالم بالحادث الإرهابي في \”نيس\” الفرنسية وتقام سرادقات العزاء شرقًا وغربًا، والكل يتجاهل المصدر الحقيقي للإرهاب في العالم كله والحكمة الأصيلة \”من زرع حصد\”، لا شماتة في القتل والعنف والدماء؛ لكن السؤال الأول: من فتح هويس الدماء؟ والثاني: من صنع القاتل، من علّمه ارتكاب الجريمة بدم بارد؟ هي أسئلة تستوجب تحريرها من علامات الدهشة أو الاستهجان أو العاطفة التي تتبعها أسئلة من نوع: ألم يكن للقاتل أمًا علمته المحبة؟ لأن حوادث القتل من هذا النوع ليست فردية وإنما انعكاس لقيم المجتمع العالمي الذي يمجد الكراهية والاحتقار، الأحوال في العالم كله غريبة ومرفوعة على شفق مهدور على الأفق؛ جُن العالم وأصابه السعار الذي يطال الجميع، وأظن لا غرابة أكثر مما حدث من الانقلاب / الصدمة الذي حدث في تركيا؛ بشكله التقليدي القديم والساذج، مجموعة من المتمردين؛ فاقدي الخيال والحضور والدعم الشعبي بشكل يحيّر ولا يبرر لحدوث الانقلاب هكذا وبلا نسق يجعلنا ندرك أسبابه، ولا نغض الطرف عن ضعفه واتباعه لأساليب قديمة كسيطرته على مبنى تليفزيون الدولة ومطار أتاتورك وبعض المقرات الرسمية في المدينتين الرئيستين: أنقرة واسطنبول، وهي السيطرة التي لم يستطع حتى أن يحافظ عليها ولا أن يمتلك بوقًا إعلاميًا واحدًا يساعده، أو رؤية سياسية متماسكة تساعدنا نحن على الفهم، إذن هو خيال معدوم في زمن لم يعد يليق به زحف دبابة وتحليق مروحية، زمن الجميع فيه يصطاد البوكيمون.
وبصرف النظر عن حبك لأردوجان من عدمه، فبدا ان تقديره للأمور جاء واقعيًا؛ صحيح أنه ارتبك وظهر ذلك على ملامحه بوضوح شديد، وصحيح أنه عرف أنه خسر كثيرًا، وهو ما أبرزه هذا الانقلاب في علاقته بدول الجوار وبالمجتمع العالمي الذي تردد كثيرًا قبل أن يعلن شيئًا يخص تركيا وأحداثها، لكن الحظ منحه فرصة جديدة لتقوية موقفه في بلاده؛ خصوصًا وأنه اعترف بصدمته ولم ينكر حقيقة الوضع، وعلى أساسه بدأ حملته في التطهير.
أردوغان خاسر في هذا الحدث التحولي في المسار التركي، ويحاول أن يثبت نفسه، ومازال أمامه الكثير من التحديات هو وحزبه العدالة والتنمية، وخصوصًا في ملف الحريات، وخسر فتح الله جولن وجماعته، فيما ربحت المعارضة العلمانية كثيرًا برفضها الانقلاب العسكري.
وهنا أتذكر زيارتي الأولى لاسطنبول بعد ثورة 25 يناير، حيث رحت أدور في شوارعا وأحاول أن أجد مدخلًا لحبها، وفي ذاكرتي فلوبير، جوته، لامارتين، جيرار دي نيرفال، أندريه جيد وغيرهم، ممن جالوا في اسطنبول وفتنوا بها وكتبوا الكثير عنها، وفي ذاكرتي أيضًا أورهان باموق؛ وما كتبه عن تناقضاتها الحادة وهي المنقسمة جغرافيًا بين قارتي آسيا وأوروبا، والمتأرجحة، بين الحداثة والتقليد، وهو ما وصفته الأكاديمية السويدية حين منحت باموق نوبل في الآداب عام 2006: \”إن باموق اكتشف رموزًا روحية جديدة للصراع والتشابك بين الثقافات، خلال بحثه عن روح مدينته الحزينة، اسطنبول\”، فإذا بي أواجه السؤال المتكرر في شوارع اسطنبول: \”إنتِ مصرية؟ \”، ولما أجيب بـ\”نعم\”، يقولون: الحمد لله! حتى صادفت ذلك العجوز ماسح الأحذية الذي جلس على ناصية شارع الاستقلال وأمامه صندوقه الذي علق على طرفيه علمي تركيا، والعلم في تركيا منتشر في كل مكان حتى على شرفات البيوت، ولما علم ماسح الأحذية بجنسيتي المصرية، طالعني بقصاصة من صحيفة تركية عليها صورة أردوجان وقال لي: إنه اليوم عندكم في مصر، ثم أردف كلامًا كثيرًا بالتركية؛ لم أفهمه ولكني فوجئت بصديقتي المصرية تعيش هناك والتي تولت الترجمة تضحك وتواصل ترجمتها: بيقول خلوا بالكم من حكم العسكر.. لم ألتفت لفذلكته ومحاولته التحليل، ولكني أدركت من البداية أن تجربتهم مع العسكر التركي لم تكن التجربة الميمونة، فتركته ولم أرد عليه سوى بابتسامة بلهاء.
وهي نفس البلاهة التي عاودتني وأنا أحاول الخروج قليلًا من زخم الأخبار عن الأحداث في تركيا وانقلاب عسكرها \”العبيط\”، ليطالعني خبرًا آخر عن إعلان البيت الأبيض الأمريكي براءة السعودية من تفجيرات 11 سبتمبر، وعند هذه النقطة وجدت نفسي كما إسماعيل ياسين في أوبريت \”عنبر العقلاء\”، أصرخ بقوة: والنبى ناولونى الولاعة عايز أولع روما بحالها
أنا مستعجل عندي إذاعة خطبة عظيمة لازم أقولها
هتقول إيه يا نيرون سمعنا، متعنا بخطبك متعنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top