(1)
بوسي تسير وسط الناس غريبة دون نور، نظارة سوداء كبيرة لم تفلح في إخفاء \”قفلة العين\” وهي تعتصر وجعا فتنزل دموعها خيطا هو حصتها من حكايتهما الكبيرة، خطوة مرتبكة لا تلتزم بطقس الجنازة أو أفقها الفسيح الذي يرفرف فيه الجفاف بعد غياب الخِل التاريخي، فلا يظهر سوى ظل مرتعش خلفها يشعرها بنقص في المكان، تسير على عجل كمن تبحث عن عنوان نجمها و\”حبيبها دائما\” الذي سكن الموت، كأنها تصعد جبلا علها تجد أمسها الذي يكمل دورته مع غدها المجهول؛ فلا تجد سوى أكف الغرباء والأقارب ممدودة إليها لتواسيها وأعين الجميع تقفز منها الشفقة، فيما هي تنفرط في بكائها حين تتأكد أن المستحيل وحده الذي لن يمد يده ويأخذ بيديها. كانت مع نور واحد في اثنين حتى في سنوات الغضب والانفصال، والآن صارت وحيدة لا تقوى خطواتها على المواصلة في مدار التباس الثنائية، بينما ينغلق ظلها على ما تشكل من وضع جديد يختفي فيه جسد ليرتبك الآخر.
(2)
\” الذين يحبون لا يتزوجون\”.
العبارة التي لخصت أزمة كمال عبدالجواد وخياله الذي ترجل عن خفة الأشياء، في \”قصر الشوق\” و\”السكرية\” من ثلاثية نجيب محفوظ تسلل بعبارته التي تشظت لتكون صورته في لحظة برزخية لإنسان لا يأبه بالأقدار ويمشي وفق حدسه، يتمرد على الشكل ويغير النهايات كالصاعقة. ظلت صورة كمال عبدالجواد في ذهني منذ صغري عصية على الفراق، وظل نور الشريف تجسيداً لهذه الصورة، ممثل كامل التكوين والإيقاع.. حساً وحركة ودراسة وموهبة، من كمال عبدالجواد إلى التائه الحائر بين الأضداد ابراهيم عبدالله بطل \”أديب\” قصة الدكتور طه حسين، نموذج الممزق بين الحلم والواقع، بين الأزهر والسوربون، بين جذوره في الصعيد ورأسه تتطلع إلى باريس، مروراً ووصولاً إلى عشرات الأدوار التي قدمها ابن \”قلعة الكبش\” .. جغرافيته التي قفز عن جدارها متجاوزاً حلمه الصغير والبدائي في أن يكون لاعب كرة قدم ليولج في عالم التجلي الحر، فغير موقعه بحركة مفاجئة كلاعب شطرنج من نادي الزمالك إلى المعهد العالي للفنون المسرحية.
خروجه من الجغرافيا لم ينسه التاريخ، فجاءت أغلب أدواره مستلة من مجتمعه ومعبرة عن ناسه دون الوقوع في فخ النمطية، حمل همومهم كما حمل ملامحهم، وأخذت أعماله تتجه تدريجياً نحوهم وتبرز العلاقات بين البشر في واقع صعب يعلو فيه صراع الإنسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة، ينتقل من شخصية إلى أخرى بمخزونه العامر من الحياة والبشر، هو ما ساعده ليكون كمال عبدالجواد ثم عادل عوض في مسلسل \”القاهرة والناس\” وجعفر الراوي في \”قلب الليل\” وابراهيم في \”حبيبي دائماً\” وشخصياته الأخرى الحاضرة في أفلام يوسف شاهين وغيرها من عشرات الشخصيات في أفلام تنوعت وتباين فيها التكوين النفسي والاجتماعي، وعبرت عن المهزومين وتماهت مع خريفهم وعالمهم المغوي الذي يدل على بشريتهم وأزمتهم الوجودية، كما تزاوج الأدب والسينما في مشوار نور الشريف بشكل حتمي لم يكن منه مفر، الثلاثية.. السراب.. زوجتي والكلب.. بئر الحرمان.. الإخوة الأعداء، وغيرها روايات رصعت مشواره السينمائي الذي زاد على 170 فيلماً، غير رصيده المسرحي والتليفزيوني.
منجزه الأهم والفاصل بدأ في الثمانينيات التي منحته استقلالا نسبيا، خصوصا حينما أنشأ مع الفنانة بوسي شركتهما الانتاجية التي كانت باكورة إنتاجهما \”دائرة الانتقام\”، نسخة أخرى من الكونت دي مونت كريستو، ليتحرر بعدها بحسه الواعي من دائرة النجومية الفارغة وليكون صانعا في الحركة السينمائية والفنية وسباقا في تقديم التجارب الجديدة والأسماء التي صارت علامات على خارطة السينما (سمير سيف، عاطف الطيب، محمد خان، بشير الديك، محمد النجار و.. غيرهم)، بخلاف نجوم التمثيل. إنه نور الشريف الذي اختار إيقاع حياته ليكون عزفاً منفرداً لفنان أدرك أن الزعامة ليست طحن الضجيج وإنما أعمالاً فاعلة تصنع الحضور البهي.
(3)
ظل اسم نور الشريف هو الأول على الأفيش والأعلى أجراً في الزمن الذي تأرجحت فيه السينما بين تجاربها الجديدة الموغلة في مجتمع بائس وبين أفلام ترزح تحت قوانين المقاولات، حتى قدم فيلمه \”ناجي العلي\” الذي جلب إليه عاصفة الهجوم والمشاكل والإقصاء عن محور الخارطة إلى هامشها، حيث أعاد ترتيب حياته بما يليق بخسارته اللحظية وعلى مهل رسم خطه الجديد كما شاء : \”أنا أعتبر نفسي من المحظوظين حتي في مجال الخسارة، فخسارتي دائما معقولة، لأنني لا أحب المال، فإذا كانت الخسارة مادية فإنها ليست مؤذية بالنسبة لي\”. حسن يفرمل بقوة الأتوبيس عندما يسرق لص نقود أحد الركاب، ويغادر الأتوبيس ليلحق باللص الهارب ويجرى خلفه بين السيارات ثم يمسكه ويكيل له اللكمات منفجراً بالغضب ، وهو يطلق صرخته الشهيرة: \”يا ولاد الكلب\”.