الأبيض أبيض والأسود أسود، أحاول أن أقرأ عنوان هذا النهار وأنا أطل باكراً من نافذتي أنتظر الشمس بكل ما في من شغف وحلم وصبر، سذاجتي تجرني إلى الزمان البعيد والشرفات القديمة كما لو كانت كل العواصف التي هبت على البلاد تقتلعني وترميني على طريق الجرح المستباح بين العنف والسخرية.
سؤال العنف والسخرية يغص بالقلب، وعلى هواه يصنع إيقاعا يوميا ويحملني عبر كل ركن في بلادي وكأني أبتدع روحاً جديدة بعيدة كل البعد عن أزقة الموت والجنون أو إنتظار ما لايأت ولا يُشرفنا بمجيئه أبداً، أو هكذا وددت أن أحتفظ بإنسانيتي.. استجمعت ذاكرتي وصدقت ألبير قصيري في روايته العنف والسخرية: \”ربما إخراج قليل من الشحنة بالسباب\”، مزاجي متعكر جدا هذا الصباح ولا يفيده السباب أو السخرية، أطفأت صوت التليفزيون واكتفيت بالصورة تقتحمني وتتوالى مشاهد الموت، فأتفحص الملامح التي لم نرتب أنفسنا بعد على مواجهة نسيانها، هل نطلب منهم الغفران وهم الذين رحلوا دون أن يتركوا وصية سوى إشارة النصر الجريحة، هل ترك أحدهم مع أشلائه رسالة لحبيبته المجهولة أو كلمة لأمه كي تنام وترتاح؟ ما هذا السؤال العبثي، هل نسأل الذين خطفهم الغول: لماذا لم تعلمونا الطيران لكي نحلق بعدكم في الحياة؟ أحمل هذياني إلى خرائط الدم المسفوك على شاشة تليفزيون نجلس جميعاً أمامها نتابع من خلالها الصغار الذين كبروا وماتوا بالنيابة عنا، وربما نتساءل: هل الذين قتلوهم لم يكونوا يوماً صغاراً علمتهم أمهم أن الحياة أكثر حماساً من الموت؟
تأت برامج التليفزيون بنفس الوجوه ونفس الضيوف ونفس أدوات التعبير الخطرة، حتى إنني ظننت أنهم سيقذوفنني بشيء، ونفس الإشارات السمجة. الإشارات..؟! لقد قمت مساء أمس بقراءة القليل من مسرحية \”طقوس الإشارات والتحولات\” لسعد الله ونوس، وتورطت في انفعالي الزائد بالمسرحية التي شاهت أكثر من عرض مسرحي يقدمها، استسلمت لشطحات ونوس وهو يتوغل في شريان مجتمع ويبعثر خباياه ونزواته ومكره ونفاقه. ترى لو كان ونوس حياً، كيف كان سيستلهم ما نحن فيه الآن من عبث يفرضه علينا تجار الموت؟
كما لو أن البكاء يحل المشكلة بكيت، ولكني رغبة مني في تجنب الأحاسيس المبهمة، قررت أن أقفز على كل الخيبات والأوجاع وأحصل على حياتي اليوم كما يقول كتاب السر، أن أطلب من الكون أن يرتب أموره ليتهيأ لي ويجلب السعادة، أن أكون مغناطيسا يجذب الحب والأساطير الجميلة، واعتبرت فيلم \”الإشارة\” تخلق الحب أحياناً\” هو همزة الوصل الخفية، الفيلم القصير الذي شاهدته على يوتيوب إشارة بها أهتدي وبشارة لدخول مجال حيوي آخر يقودني للتغيير على طريقة \”غيّر العتبة\”، لعله يجيء يوم آخر كامل التكوين نرسم فيه حياة لا راية فيها للتراجيديا، وإن تعثرنا قليلا فعلى الأقل نستعيد فيه لحظة أن نمشي على الرصيف آمنين أو نستند على جدار ونحن نغني أغنية تهوّن من خيباتنا العاطفية أو تحرضنا لنقول \”لا\” في وجه السلطان، ونتحرر من كمائن الموت والليل الدموي والخوف من متاهات تضيق بنا ولا تُحفر فيها جغرافيا ترسم لنا مفترق الطرق لا تتشعب فيها الذكرى ولا تتشابه فيها المصائر، ونظل على عهدنا نألف صوت الشيخ التقشبندي حين يغمرنا:
مولاي إني ببابك قد بسطت يدي
من لي ألوذ به.. إلاك يا سندي