نفسي مقطوع من تلوث القاهرة الطبيعي والصناعي وسحابتها السوداء وبقايا من غاز المظاهرات يقول الطبيب أنا التصقت بجدار الشعب الهوائية وترفض أن تبارحها، فسدّت عنها الهواء و أصبح لزاماً عليّ الهروب من القاهرة العامرة ببؤر نفاياتها التي تلتف حولها كالأفعى، لكن أهرب من مصر وأروح على فين؟ وكل دخان يشهر نفسه في وجهي كأنني حجر؛ وحتى الحجر ذاته يشكو ويئن من أثر الدخان والفساد والتعب ويكاد يصرخ على طريقة الأشقاء اللبنانيين في بلادهم حالياً: \”طلعت ريحتكم\”.
يقول الطبيب:\”رئتك هايبر أكتيف.. إهدي شوية\”، ولا أعرف كيف أفعل هذا الفعل \”أن أهدأ!!\”، لا أستطيع أصلاً؛ فالسباق على أشده وكلما شردت قليلاً أو استكنت أجد الجميع يلهث فتمزقني ريح الخوف، لكن أي سباق وأي جميع ومتى هبت ريح الخوف هذه وكسرني صوتها وأصابني المرض؟ لا أدري!!
غادة الكاميليا لا تسيطر على نوبات سعالها وتفقد حبها الذي كان دعمها الأكبر في التنفس والشفاء من الرذيلة الاجتماعية والمرض ثم تموت بـ\”السل\”على فراشها وحبيبها يحتضنها نادماً وباكياً، وزينب تواجه ثقافة التسلط الذكوري وعدم احترام كيانها كامرأة، وإن ظهرت في صورة راقية ابراهيم، النموذج الهوليوودي في الجمال، المرأة الناعمة ومتفجرة الأنوثة بخدودها الحريرية وعيونها الناعسة وصوتها الممطوط، المُنغم، الحاضر بتأوهاته، هذا النموذج الإغرائي الصارخ أو كما يطلق عليه النقاد توصيف \” النجمة الغندورة\”، لكنها تظل نموذج لامرأة مستكينة ومستسلمة لمصيرها ومقهورة تصرخ بعبارتها الشهيرة التي أطلقتها وهي تترك بيت زوجها وأهله القساة: \”اللي مالوش أهل الحكومة أهله\”.
بينما هدى في \”أيامنا الحلوة\” تدرك أنه لا مفر من النهاية وتفضل أن تعيشها على طريقتها وهي تشهد اللحظات الأخيرة لرحيل الأحباء من نافذتها وتحتفظ بالصورة الأخيرة لهم في قلبها الذي ينغلق بعض قليل.
المهم. لدي الآن ما يجعلني أن أنتقل من الغامض إلى الغامض واختلاط الأزمنة بالأمكنة بالشخصيات، والأهم أن أحافظ على توقي بموقعي في السباق الافتراضي بين الجميع الافتراضي على أطراف المجتمع الافتراضي، ولا أخضع لنصائح ليمونهم وعسلهم وقرفتهم وزنجبيلهم، بل أمتص غبارهم فيما تطاردني نظرة مختلطة في عيني نفيسة تتكدس فيها البؤس والعلة والبداية والنهاية كما رصدها نجيب محفوظ كاشفاً الشذوذ الخلقي والجنسي لمجتمع يمتص آدميته حتى القطرة الأخيرة، وانتحار نفيسة لم يؤدي بنا سوى إلى مصير من الفراغ الجاثم واجهناه معها كما واجهته إحسان شحاتة في \”القاهرة 30\” أو حميدة في \”زقاق المدق\”.
وشفيقة ليست امرأة زاهدة في مجتمع ناسك وإنما هي أشبه بـ\”زجاجة مياه غازية \” يتجرعها الرجل ثم ينتهي الأمر بروح باردة وينتهي حالها بالعنوان البراق والمتواصل \”الانتقام للعرض والشرف\”، وهي لم تختر لا العنوان ولا العرض والشرف، والكل تبارى في مصرعها السهل الصعب، والكل على يديها \”بانو بانو بانو\” كما تقول أغنيتها الشهيرة:\”وعصير العنب العنابي العنابي/ نقطة ورا نقطة يا عذابي يا عذابي/ يكشف لي حبايبي واصحابي/ يوحدني وانا ف عز شبابي/ القلب على الحب يشابي والحب بعيد عن أوطانه\”.
وعزيزة، يا وجع القلب في حياة فقيرة وذليلة، الفلاحة الفقيرة الشقيانة التعسة يُصاب زوجها بالبلهارسيا، فيصبح طيف رجل في البيت بينما تتحمل وحدها الشقاء وتعمل في \”الترحيلة\” مكانه وتعود للبيت تقوم بمهامها كأم وزوجة ثم تموت كسيرة بعار مجتمع الفقر الذي لا يرحم الضعيف ويندفع كالصهيل ليقضي عليه تماماً، فيما عزيزة الذليلة تندب في حضرة تخاريف المرض الاجتماعي الميئوس منه:\” جدر البطاطا اللي كان السبب يا ضنايا\”.
وليلى في \”الباب المفتوح\” حين تعبره، بالتأكيد لم يساورها أي شك تجاه المجهول الذي كان ينتظرها والذي نتجرعه الآن نحن من سرن وراء ليلى بـ\”قلب جامد\”، ليلى قادها رجل اسمه حسين للتحرر من قيود تبعيتها لمجتمع لا يهتم بالمرأة ككائن مستقل، لكنها صارت ظلاً لهذا الرجل، وليلى كما أرادتها الكاتبة لطيفة الزيات بالتأكيد غير \”ليلى بنت الريف\” كما قدمتها ليلى مراد في الفيلم الشهير لتوجو مزراحي، الفلاحة التي تجيد اللغة الفرنسية ودرست في \”الميردي دييه\” والمستوردة من مجتمعات لا تمت لنا بصلة، وكل على ليلاه يغني وأنا أغني على ليلي الذي يشتهي خطوة صاعدة ويرفض أن يدجن الموت ويتبع صفارة الليل التي تتنغم بها حشرات الحقول كما في قريتي الصغيرة التي كانت تطرد عني همي، كامرأة تطلق ساقيها في ريح عبثية علها تحملها لتزرعها في مكان مستقر، تقف كما إيرين بروكوفيتش عزلاء إلا من إرادتها في الحضور دون أن يغويها القلب بالاستسلام للمكاسب السريعة وتفضل أن تصعد سلم الحياة الحجري الحلزوني لتصل إلى مبتغاها متجاوزة فكرة التعب أو انسداد الهواء في الشعب الرئوية أو الخضوع لرجل يقف على طرف حياتها، لن تسمح له أن يفرد ظله فينفرد الظلام على الصورة.