ناهد صلاح تكتب: مركب يا بيه.. كاريتة يا هانم

حين سافرت منذ ثمانية سنوت تقريباً إلى قرية \”جراجوس\” بمدينة قنا، وكنت وقتها أشارك فريق صديقي المخرج أحمد رشوان أثناء تصوير فيلمه التسجيلي عن رائد عمارة الفقراء حسن فتحي، وعرفت في جراجوس حياة أخرى لما دخلت بيوت الأهالي، مسلمون ومسيحيون يعملون بالغزل اليدوي، وتعاطيت مع كل رموز الفقر المدقع الذي يعيشه المصريون عموماً، وبينما كنت ألعن في سري كل نظام مبارك الذي يجرد البشر من آدميتهم كانت هناك يد صغيرة لطفلة تعطيني خيطاً ملوناً، كيف عرفت هذه الصغيرة عشقي للألوان؟ انحنيت أقبل اليد الصغيرة وأنا أتمتم: \”يد نقية توقظ القلب، ويد ملوثة هناك مختبأة في أقبية الظلام\”.

أقبية حسن فتحي هي أقبية النور التي غيرت مسار حياتي، كما كان يأمل حسن فتحي نفسه مع الفقراء الذي انتمى إليهم بإرادته، وصعد بأحلامه نحوهم، قبل أن أذهب إلى جراجوس ذهبت إلى القرنة؛ نموذج الحلم الذي أراده للفقراء، ففاجئني أفقها الذي اتخذ شكل سؤال يحاصر هذه القرية المهملة التي تقع علي الضفة الغربية لمدينة الأقصر: هل كان الزمان يخبيء كل هذا الخراب والتشوه الذي أصاب حلم\”حسن فتحي\”؟ مسرحها المهجور والخان والمدرسة وبيت حسن فتحي الذي لم يعد يسكنه سوى الخواء، أما البيوت فبعضها سكنها واضعو اليد والبعض الآخر تم هدمه ليحل محله بيوتاً أسمنتية بغيضة، لم يستثنى من ذلك سوى مسجد القرية الذي افتقد العناية ومنزل بناه حسن فتحي لضيوفه كان يقطن فيه حارسه \” أحمد عبدالراضي \”، كل شيء هناك كان قد أصبح أشبه بالنصب التذكاري اليائس.

أما في جراجوس، وتحديداً في مصنع الخزف الذي بناه فتحي داخل الدير الكبير، كان الأمر مختلفاً، ليس لأن كل شيء يدون تاريخاً جديداً يحوّل الجمال إلى واقع، ولكن الأهم أن القلوب مازالت تنطق بالحب، أتذكر أنني أول ما دخلت الدير أصيبت بحالة إغماء من إرهاق العمل المتواصل بين الأقصر وقنا، وبعد أن أسعفوني في الدير وفحصوا الضغط وشربت القهوة المُرة، بدأت أستعيد توازني وتأكد رهاني على أن السياسيين والمتزمتين مجرد أشباح لا تمر من هنا وسط البشر الحقيقيين، وعندما نهضت وقعت عيناي على صورة حسن فتحي معلقة على جدار داخل الدير ومذيلة بالقديس حسن فتحي، ولما ضحكت قال لي حارس الدير بحدة وحسم: \”إنه فعلاً قديس، لم يعرف في حياته غير الحب الذي وزعه على الجميع\”، ولما عدت إلى القاهرة بعد أسبوع من العمل والاكتشاف كنت أحمل تمثالاً للعذراء واقرأ سورة مريم، ولدي يقيني بأنه في حضرة أسطورة الحب تضيع عفاريت الفزع والخوف، واليوم وأنا في مدينة الأقصر أتابع مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية في دورته الرابعة لم أمر بـ \”القرنة\” في البر الغربي أو \”جراجوس\” في قنا، لكن مشيت بشوارع الأقصر التي تخلو تقريباً من خطوات السائحين ويتراص فيها البشر وعربات الحنطور كقطع الموزاييك التي تحاول أن تعيد تشكيل المشهد قبل أن يهددنا جميعاً هوس التأويلات ورصد الاحتمالات الكثيرة وخيبة الأمل، فاللحظة لا يجب أن نربطها بالسياحة والمشاكل العظيمة للعاملين بالسياحة أو السعي الدؤب لإشغال الفنادق في شهرين أو ثلاثة خلال العام وفقط، إنما الأمر يحتاج إلى نسق أكبر ومشروع لتفعيل الأقصر كمدينة سياحية ومنطقة تكون هي مصدر أساسي لصناعات تلائم طبيعتها الخاصة وتخرج الشباب الأقصري من دائرة الإحباط وخيبة الأمل والوقوف على الكورنيش وهم يحاولون اقتناص فرصة عمل أو زبون:\”مركب يا بيه\” أو \”كاريتة يا هانم\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top