ناهد صلاح تكتب: ما مسح دموعي غير طرف كمي

لولا صرخة بائع الروبابيكيا في الشارع، حطّت على أذني وجعلتها تُصفِر، لظننت أنني مت وما كنت انتبهت إلى خفقان قلبي؛ كأنه ينتعل حذاء الهواء ويركض في مكانه كالذي أخطأ بوصلته وفقد خط رجوعه، يأتي صوت بائع الروبابيكيا متقاطعا مع صراخ أطفال وهيستيريا رجل وامرأة يتعاركان وزقزقة عصافير لم أرها أبدا تقف على نافذتي ولا حتى اتذكر هيأتها وهي تُحلق حولها.

ذات مرة في بيروت سألتني سيدة لبنانية بصوت متهدج ينسل من هشاشة مفرطة ويبدو متأثرا جدا من بشاعة الفعل: أنتم المصريون، كيف تأكلون الحمام، هذا الكائن اللطيف المسالم؟ ودون أن تنتظر إجابتي، شاركت زوجها في طبق من العصافير المقلية المقرمشة (تمزمز فيها) مع الشراب!

الإزدواجية آفة مجتمعاتنا.. هي الجملة الناعمة، المبطنة بقطيفة تتلفحنا يوميا بثقل في الهواء نزفره بالسؤال المتكرر: إيه اللي جرى.. اللي حصل.. اللي اتغير؟ كأننا وقعنا من \”قعر قُفة\” الأمس الطيب الوديع، وتكسرنا شظايا على بلاط الحاضر المبتل والموصول بسلك كهرباء عريان، العيون تتلاقى بسؤال يطارده الكُل في الفراغ ببلاهة إسماعيل ياسين لما ارتدى بذلة البوليس.

يخبط سائق التاكسي على عجلة القيادة حين تفادى سيارة ميكروباص كسرت عليه، ويخرج رأسه من النافذة: جاتكوا نيلة مليتوا البلد.. أخلاق ميكروباص صحيح، ويعود وهو يعدّل من وضعيته على مقعده مبرطما: عليه العوض البلد باظت خلاص.. مفيش التزام، ثم ينجو منه إثنان من المشاة بأعجوبة، لأنه أراد أن يسبق خطواتهما بصرف النظر عن الالتزام بخطوط المشاة، الأثنان الناجيان بعد الحوقلة وسب الزمن الذي انعدم فيه الضمير والثورة التي أخرجت أسوأ ما في الناس، تهترئ أطرافهما فجأة أمام فتاة تسير على الرصيف تحكي في الموبايل، ودون سابق إنذار ينهالا عليها بعبارات كلاشيهات: \”جاي ولا الدور الجاي\”، \”الساعة بخمسة جنيه والحسّابة بتحسب\”، تتوقف الفتاة والشرر يتطاير من عينيها وتقول: هي دي نخوة ولاد البلد، ثم تُواصل حديثها التليفوني وهي تصرخ في رجل مجهول لأنه تركها تنتظره في الشارع وتتعرض لحماقة فاقدي الشهامة والأصول، بينما هو يجلس مطمئنا بجوار زوجته، والرجل المجهول بسلامته يتحدث بشكل مبهم وبارد بينما يكتب بوستات عن فضيلة الحب على صفحته على فيس بوك ويتلقى عشرات التعليقات والإعجاب من سيدات وفتيات يسألنه: إنت حقيقي ولا جرافيك؟ وأمامه تجلس ابنته الصغيرة تشاهد برنامجا تليفزيونيا، تلتقط منه بعض الكلمات، فتسأل زوجته؛ وهي بالمناسبة أم الابنة الصغيرة: يعني أيه إزدواجية يا ماما؟، فتجيب الأم بهدوء وهي \”بتقمع البامية\”: بصي لأبوكِ وأنتِ تعرفي.

وأنا مالي، أقولها على طريقتنا المصرية الأصيلة وأنفض عن رأسي السؤال، ولا أشغل بالي بـ \”ماذا حدث للمصريين؟\” كما فعل المفكر د. جلال أمين في كتابه الشهير مستعرضا التباين الاجتماعي والتغييرات العنيفة التي حدثت في مجتمعنا خلال الخمسين سنة الأخيرة، وأختار أن أجلس خلف زجاج المقهى الكبير الذي يبدأ به الرصيف المؤدي إلى المول الفسيح.. أمامي الـ\”لاب توب\”، علني أكتب سطرا واحدا، أدقق في الكلمات، أحملق في الشاشة، أرشف من فنجان قهوتي، ثم أنهض بما يليق بإنسانة حرة لا يراقبها أحد وأمشي بخطوتي الوئيدة أتفحص الصور على الجدران، سأختار صورة الصغيرة التي تُدير ظهرها إلى العالم مع أنها تمسك بيدها بالونات ملونة والأفق حولها يبدو أنها امتلكت بهجته، لا أستطيع أن أحدد مصدر صوت أنغام الذي ينساب:

قاللي يا أم رشرش حرير شنكله أحمر

الشعر خيلي سواده ليلي طويل مضفر

والقصة حاردة على حواجب ما اللى تسحر

خايله لحديت فروق راسك يا عيوجية

وإن كان عليا ما البس سوا اللي يداري همي

دانا وحدانية ما مسح دموعى غير طرف كمي

تتلكأ الكتابة ويمر أمامي بائع الروبابيكيا، تخاتلني ابتسامتي حين أتذكر كل الأشياء المبعثرة في البيت ولا أستطيع التخلص منها، يتملك الكسل مني ولم تعد القهوة تحتمل مقاومته؛ يحتاج هزة أرضية، يعلو الصوت: بيكياااا، وترد أنغام:

آه يا اخويا صادق بس فوتني باللي بيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top