ناهد صلاح تكتب: ليوناردو نبي الحب والانتقام

You\’re here, there\’s nothing i fear

And i know that my heart will go on

We\’ll stay forever this way

You are safe in my heart

And my heart will go on and on.

(من أغنية My Heart Will Go On في فيلم تيتانيك)

بكل إشارات الغمز واللمز حوصر جاك وروز، ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت في حفل ختام جوائز الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتليفزيون (Pafta)، وكانت كيت التي حصلت على جائزة أفضل ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم \”ستيف جوبز\” إخراج داني بويل، تصعد لاستلام الجائزة وهي تتنفس بصعوبة في لحظة كاملة التكوين وفي طريقها تتلمس أناملها كف ليوناردو الذي حصل على جائزة أفضل عن دوره في فيلم \”The Revenant\”، وجلس في الصف الأول يحاول أن يتحكم في تقاسيم وجهه، فيما تفلت من عينيه نظرة تمزج بين السعادة والعفوية والغموض، وهو يصفق حين سمع إعلان فوز \”كيت\”، فيعيد هذا المشهد فيلم تيتانيك وزفرة الرومانسية الجامحة في السينما، ويزداد المتابعون حماسا حين يلمحون نظرة جانبية من كيت فيفسرونها على أنها نظرة لازوردية تجاه ليوناردو، ومع أن الاثنان لم تجمعهما قصة حب ولم نسمع أن كيت انحدرت إلى الهاوية أو أنها مزقت شرايينها لأنها لم ترتبط بحبيب قلبها ليوناردو؛ بل إنها تزوجت ثلاث مرات، لكن التفسيرات والتعليقات التي لم تخل من السخرية جاءت كلسعة نحلة تحافظ على عسلها، أراد الجميع أن يرمموا حكاية لم تحدث من الأساس ليعالجوا اغترابهم الشخصي أو يعوضون كثيرا أو قليلا عن حياة إن نجت من العنف وقعت في حبائل الملل، وجاء هذا التعويض باسترداد ثنائي من ثنائيات الحب والرومانسية كأنهم يجربون الحياة بالذكرى.

\”ليو\” طفل له حكمة الكبار، من هنا تبدأ حكاية الصغير بين الأمس واليوم، حيث تستدرجه خطواته ليصنع إيقاعه الخاص من فيلم إلى آخر، برزخ متموج بالأحلام غير العصية؛ كان الأمر كله واعدا منذ البداية بالنسبة لصبي ولد في بداية السبعينيات واقترب من عالم التمثيل، ولم يستدر للفرار أو الخروج عن المدار، لكنه قرر أن يوسع المدى ولا يفرط في فرصة التقطها دون أن ينشغل رأسه اليافع بتأويلات الصعود، فقد سار اهتداءً بصوت داخلي يحرضه أن يتابع مرة كولد طائش ومرات كمتمرس في تقمص الشخصيات لا يعنيه \”شكله الحلو\” وجاذبيته الطاغية ووصفه بـ\”الفتى الوسيم\”، وإنما قدرته على التركيز والتماهي مع الدور ومرونته الجسدية أو \”البلاستيكا\” كما وصفها المسرحي الروسي الكبير قسطنطين ستانسلافسكي، ربما لم يعرفه حينذاك؛ لكن من حسن حظه أنه حاول من البداية على مهل أن ينحت طريقه كممثل أتاحت له هشاشته أن يدخل التجربة ويتحمل رعدية الإنتاج السينمائي وقسوة شروطه، فلو لم يكن ليوناردو في طريقه إلى السينما منذ البداية؛ كانت السينما ستلتقيه كالبرق أو الصاعقة، فهي نصيبه الذي تسلل تحت جلده ونصه المكتوب وواقعه وخياله وقدره الذي سار إليه اختياريا عبر دهاليز الإعلانات التليفزيونية ثم المسلسلات قبل أن يخطو خطوته السينمائية الأولى في فيلم الخيال العلمي \”المخلوقات 3\”، ويبدأ انطلاقته الأكبر في فيلم  \”This Boy’s Life حياة هذا الفتى\” مع روبرت دي نيرو المقتبس عن مذكرات توبياس وولف، ثم فيلم \” What’s Eating Gilbert Grape  ما الذي يضايق جيلبرت جريب؟\” لعب فيه دور آرني وهو الأخ الأصغر لجيلبرت الذي قام جوني ديب بدوره وكان عليه الاعتناء بأخيه الأصغر المريض وبوالدته البدينة، والذي وضع ليوناردو على مقربة من جوائز الأوسكار في عام 1993، حيث أهّله للترشح لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد في التاسعة عشر من عمره، فصار فتى الأوسكار، وإن لم يفز بجائزة الأوسكار حتى الآن، بالرغم من ترشّحه لها أكثر من مرة كممثل وكمنتج، وتوالت أدواره ومنها Romeo + Juliet، المأخوذ عن مسرحية شكسبير الشهيرة وأخرجه باز لورمان، وحي البدايات وبشارتها التي رشحته ليكون فيما بعد نبيا للحب والرومانسية حين جسد جاك دوسون في تيتانيك للمخرج جيمس كاميرون، ومن جاك  المحب العنفواني في تيتانيك إلى إدوارد؛ دوره المثير في\” Shutter Island\” مع مخرجه مارتن سكورسيزي الذي أشركه في لعبة الاحتمالات التي تفاقمت مع أمستردام فالون في \” Gangs of New York\”، فيما مدّ حبل الاحتمالات بشخصية دوم كوب في \” Inception\” مع المخرج كريستوفر نولان، واستنزفت كل الاحتمالات فرانك ويليامز أباجنيل الابن في \”Catch Me If You Can\” للمخرج ستيفن سبيلبرج، ولا يدع مجالا للتفاوض مع هوارد هيوز في \” The Aviator\”؛ فيلم آخر مع سكورسيزي يتبادلان فيه كسر التوقعات الجاهزة ويطيل التأمل في فسيفساء حياة متسارعة وربما قد يدفع إلى التساؤل: أفي وسع الذاكرة أن تعيد شحنة من الأمل؟ عله السؤال الذي يكمل الحديث عن الطموح والأوجاع، حتى يدهشنا قليلا من خفة الأشياء في \”  The Great Gatsby\”، أو حين يعود مع كيت وينسليت في فيلم \”Revolutionary Road\”، أخرجه سام ميندز عن رواية بنفس الاسم صدرت عام 1961 للمؤلف ريتشارد ياتس، وينتقل إلى مساحة أخرى مع شخصية مختلفة هي ويليام كوستيجان في\” The Departed\”، سكورسيزي أيضاً في فيلم يدور في عالم الجريمة والإثارة الذي يلوح أيضاً مع شخصيته داني آرتشر في Blood” Diamond\” من إدوارد زويك ، أو \” J. Edgar\” مع كلينت إيستوود، بينما يعود مع سكورسيزي الذي ألبسه شخصية جوردان بيلفورت في \” The Wolf of Wall Street\” رجل الأعمال الأمريكي الذي يغوي هواجسنا في عالم متوحش؛ فيكتظ خيالك بأشباح تسرع وتبطيء ونقص في الهواء حين تشاهد تفاصيل مجهولة في عالم البورصة والمال والأمن والمباحث الفيدرالية، وتمضي ذاكرتك تفسح مكانا لأدوار متباينة ليس بهدف الرصد؛ فالقائمة تضم أدوارا وأفلاما أخرى، وصورا متنوعة أنجزها ليوناردو على مدار ما يقرب من ربع قرن، وإنما ربما الفكرة هنا قد تنبئك أن الكون يكون فسيحا للأحلام ويكون الفخ إن اكتفيت.

لا مفاجأة في  \”The Revenant\” أو العائد حسب عنوانه التجاري عربياً، سوى أنه لو لم يصيبك خلل في الشرايين وارتفاع في ضغط الدم ويصبح وجهك أصفر مثل الليمونة وأنت تشاهده، فعلى الأقل سيحالفك الحظ بضحك هيستيري من فرط المبالغة، يصاحبه بعض التشنج في عضلات البطن وتيبس في يدك التي تتشبث بمقعدك أو بذراع من يجاورك؛ إن لم تقم أصلا بعَضِها، وأنت تنجر من مشهد لآخر يتوغّل في مزيد من العنف والدم وتتوه معه في تشعبات مفتوحة على ألف سؤال والتباس، وعيناك مدهوشة بالارتباك والألم، وذاكرتك أصبحت مخضّبة باللون الأحمر الذي يُسرف في تلوين فيلم بلغت تفاصيل الدم النازف واللحم الممزق حدّاً لا يُحتمل في صنيع بصري قدمه المخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس إناريتو، صاحب فيلمي بابل (2006) وبيردمان (2014)، وكأنه هنا ينشد حقيقة مؤلمة وهي أن الآدميين (غزاة) والحيوانات (وحوش) وحتى الطبيعة (ترسل نيازكها)؛ \”كلنا همجيون\” كما كتبها الفرنسيون في لافتة علقوها في رقبة الهندي المنقذ لصائد الدببة \”هيو جلاس\” الذي يبعث من جديد بعد ما كان على شفا الموت إثر صراعه مع دبة هاجمته عندما رأته يوجه فوهة بندقيته تجاه صغارها، يبعث جلاس بروح الدب المنتقم ويأكل نخاع الدب ويرتدي فروته ثم يطارد فيتزجرالد الذي قتل ابنه \”هوك\” الهجين؛ نصف الهندي ويسحب معه صديق الابن ليتركاه وحده بجراحه القاتلة دون رحمة، يتمتم هيو غلاس لابنه الميت وهو يحتضنه: \”لا تخف يا بني. أنا هنا، سأكون دائماً إلى جانبك. لا تستسلم. هل تسمعني؟ ما دمتَ تتنفّس.. قاتِلْ\”، قبل أن يقرر الانتقام هو خلاصه المرتجى ويصوّب نفسه تجاهه خطوة خطوة ونزفاً نزفاً ولما يصل إلى ضالته بعد رحلة طويلة يرتجل فيها ذكرياته في فلاش باك يتقاطع مع أوجاعه وظهور لزوجته الهندية الجميلة التي قتلها جنود الغرب وهم يسرقون أرض السكان الأصليين، وظهور آخر لكنيسة مهجورة يحتضن فيها شبح ابنه المقتول، تشظيات في الصورة والموضوع حتى يجد غريمه ويشرع في انتقامه ثم يتركه في النهاية لمصيره \”العقاب بيد الخالق\”، فيقطع الهنود رأسه ليكافئون \”جلاس\” الذي أنقذ ابنتهم من خاطفيها البيض واستردها أهلها، لا مزاح مع الانتقام ولا نجاة من القتل والجميع يمتثلون لإيقاع العنف، ولا يبقى سوى أن الفيلم الذي لا يمكن اعتباره أفضل أفلام ليوناردو ينتظر أن يحالفه الحظ ويفوز بأوسكار التمثيل ضمن جوائز الأوسكار التي ستعلن بعد أيام وتعوضه عن خمس ترشيحات للأوسكار لم ينلها من قبل، وإن حدث وحصل عليها هذه المرة؛ فهو حظ العابرين لا أكثر ولا أقل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top