(1)
كما لو كنت أوقظ نفسي من هذياني، خرجت بدافع خفي يغمرني إلى فضاء الحسين. الفضاء معطر بروائح البخور والعطارة والمسك، والحسين يفتح أبوابه للجميع وينتشر الصحو والصخب، يمسني هذا الشغف بالخفي الغائب وأنا أجلس في بهو الحسين أنتظر صلاة الظهر وأشعر أكثر بخفتي وصوت الشيخ ياسين التهامي يتسلل إلى قلبي بأشعار ابن الفارض: \”عَطفاً على رمَقي/ وما أبْقَيْتَ لي منْ جِسميَ المُضْنى/ وقلبي المُدنَفِ فالوَجْدُ باقٍ والوِصالُ مُماطِلي/ والصّبرُ فانٍ، واللّقاءُ مُسَوّفي/ لم أخلُ من حَسدٍ عليكَ، فلاتُضعْ سَهَري بتَشنيعِ الخَيالِ المُرْجِفِ/ واسألْ نُجومَ اللّيلِ:هل زارَ الكَرَى جَفني، وكيفَ يزورُ مَن لم يَعرِف؟\”.
نحن المصريون نعشق الحسين وكل آل البيت. حين كنا صغاراً كانت جدتي المؤمنة جداً والحريصة على صلاتها لا تخفت لهفتها في الدعاء أن يمنحها الله الفرصة أن تموت وتدفن بجوار رسول الله كما حدث لجدتها، وحين كنا نشاكسها ونقول لها و\”الحسين\” كانت لا تفلت من فخنا كل مرة وترد بعفوية \”الشهيد ابن بنت رسول الله.. يارب مكان جنب الحسين\”، وتظل تحكي الكثير من الحكايات الحقيقية متداخلة مع الخرافية والخيال وتصف بدقة كأنها حضرت الواقعة كيف قتل الحسين، وكيف طارت رأسه وجاءت إلى مصر واختارتها ضفة للأمان، ثم تبكي بحرقة والبكاء في مصر تطهر قبل أن يكون وجع، كانت جدتي تبكي وقد أصابها الحنين إلى ماضي لم تعشه، لكنها توارثته هي الأخرى عن الجدات ويقودها حلمها إلى الواقعي الخيالي، وأبكي أنا بجوار مقام الحسين وقد أصابني وجع البلاد في حاضر أعيشه .
(اللهم صلي على النبي محمد وآل النبي محمد وعلى آل البيت) يبادرني العجوز هنيء البال الجالس بجوار مسجد الحسين يبيع المسابح والطرابيش التركي، أجلس بجواره على الأرض وقد خطفتني براءته وطمأنينته، فيهديني مسبحة خشبية وعلبة بخور ثم يبدأ يقص علي قصة طويلة عن سفره الى القدس وصلاته في المسجد الأقصى، أنسى كل شيء وأتفاعل مع حكاياته التي ضاعت تفاصيلها بين الواقع والخيال.
(2)
وضبت لي الصدفة أغنية قديمة لمحمد عـــبد الوهاب من ألحانه وكلمات حسين السيد: \”لما انت ناوي تغيب على طول/ مش كنت آخر مرة تقول\”، تسللت من داخل أحد مقاهي شارع المعز حيث جلست أستريح قليلاً وأستمتع بكوب شاي \”في الخمسينة\”، أفكر بالأغنية التي تحمل الأسئلة القاسية لهذا الغياب المنهك والمحير والمربك، تتأرجح الأغنية في إيقاعها الهاديء كأنها تتلمس خيطاً لهذا الغياب وصوت عبدالوهاب يتموج في مساحات من الشجن تخرج عن إطار الصمت والسكوت كأنه يحاول أن يقنعني بمصاب هذا الحبيب المذهول لفقد حبيبه المفاجيء، وما بين الفكرة واللحن ونبرة عبدالوهاب الملتاعة تتقاطع كل الأحاديث حولي ويزيد الصخب وأبدو خفيفة أكثر من اللازم أو سعيدة أكثر من اللازم وصوت عبدالوهاب يتصاعد معها: مالقاش أنيس في الوحدة دي غير ألحاني
أقول لنفسي ده مش ممكن رح يسلاني
لازم يهزه الشوق لي يرجع تاني
(3)
في المساء شاهدت فيلماً تسجيلياً، هو قديم نوعاً ما، عن رجل في قارة بعيدة قرر بناء جزيرة من زجاجات البلاستيك الفارغة التي كان يجمعها عن الشاطئ. يضعها داخل شبكات من الحبال، ويرميها في المياه فتعوم ويغطي السطح والفراغات بين الزجاجات المربوطة بالرمال لتصبح أرضاً منبسطة يغطيها بالتراب فتبدو للناس التي لا تعرف أنها جزء من الأرض، فقد استطاع الرجل أن يبني من خلال جزيرته البلاستيكية وطناً يحتمي فيه بعيداً عن العبث الخارجي.
الفيلم يمارس غوايته معي، والمساء في البيت صامت نسبياً. لا أبذل أي جهد لأجعله أقل صمتاً، كما لم أتعب نفسي بأية أسئلة وسلمتها، أي نفسي، لصوت الشيخ ياسين: انى الأسير بحبى فيك / فى شرع الهوى/ فارحم قلوبا نال منها شحوب.