ناهد صلاح تكتب: لضم الإبر.. عزف منفرد على أبواب القصة القصيرة

المجد للقصة القصيرة، المجد للقابض على جمرها ويمشي على دربها خطوة.. خطوة كأنه على موعد مع قدر مهم يتمهل له بلقطة أو حكاية وهو لا يطمع في القفز المفاجيء على منصة الرواية من أجل الفوز بالـ \”بيست سيللر\” أو التحول إلى فيلم سينمائي \”يكسر الدنيا\” ويحقق أعلى الإيرادات  فيما يحيطه المعجبون وقبلهم المعجبات، إنتابتني هذه الأفكار حتى الهذيان دونما سبب واضح  أو إلحاح من أسئلة من نوع : زمن الشعر أم زمن الرواية؟ اللهم أنني قررت أن أستغل فترة اجازتي وأعيد قراءة بعض المجموعات القصصية الخفية خلف \”رصات\” من روايات الـ\”بيست سيللر\” و\”البوكر\” وغيرها حتى من روايات لم تسع إلى لقب أو جائزة، وبدأت بمجموعة \”لضم الإبر\” للكاتب محمد اسماعيل جاد والصادرة عن دار الأدهم للنشر والتوزيع في العام 2012، والمثير أن محمد اسماعيل جاد هو كاتب لم يقف عند تجربة واحدة أو لون أدبي معين، حيث بدأ مشواره في النشر بديوان في شعر العامية \”من قلبي\” عن دار ميريت 2008، وترقصت كتابته خيلاء على أنغام السخرية عبر رؤيته الساخرة في \”أنا وخالتي\” ،طبعة خاصة 2009، وبعدها قدم روايتيه \”الورشة\” 2010 و\”الواحة\” 2011 والاثنتان عن دار ميريت، والأكثر إثارة أنه أنجز مجموعته القصصية \”لضم الإبر\” بعدهما في العام 2012، ليكون خطه البياني في الكتابة مغايراً للعادي الذي غالباً ما تكون بدايته هي القصة القصيرة، وهذه المفارقة هي ما نلمسها في المجموعة ذاتها التي يبدو فيها الكاتب منتصراً لفن القص ويعيد له بهائه عبر 40 قصة متنوعة الحجم والحميمية والفرح والشجن واللغة، من عازف الناي، وقلب وطلع راجل، وبائعة الفول النابت و.. حتى تماماً كطالع النخل.

محمد جاد يعيد ترتيب الأحوال ويقوم بتشكيل القصص بما يليق بآدميته ولغته السلسة ولقطاته التي تبدو بسيطة تمر بنا جميعاً بشكل أو بآخر، لكنها ليست بسيطة وإنما كالوخز تتسلل إلى القلب فتشعله بحنين كمن يبدل ضرباته السريعة والضاغطة إلى موسيقى الكمنجات الشجية والفرحة في نفس الوقت، ولو شئنا لا فتحنا كل نوافذ الحنين للتفاصيل الدقيقة التي يجيد الكاتب نسجها أو سخرنا من هوسنا بحياتنا الآنية وتنقلاتنا المهرولة كما الوجبات السريعة التي لا تشبه عوالم أخرى فاتت من عمرنا كالومضة فأصبحت ككل الأشياء الغائبة مغطاة بمعطف الزمن ولا نتذكرها إلا كرموز تحتاج من يفك شفرتها، كما في قصته الأولى \”عازف الناي\” التي نتلمس فيها تضاريس الحارة وتفاصيلها بروح مختلفة يمنحها لنا عازف الناي؛ هذا الغريب الذي يصنع حياة  أخرى في الحارة، فيقيمها ولا يقعدها ولكن هذه الحياة تخفت باختفائه. \” يحضر ذلك العازف إلى الحارة كل ليلة باحثاً عن لحن لم يغيره منذ دخل حارتنا منذ سنوات. يعزف ذلك اللحن ثم يخرج من الحارة بعد أن يرزق من ولاد الحلال (باللي فيه النصيب)، بعدها تنام الحارة بأكملها.. وفي الصباح، النسوان في حارتنا \”بيكيدوا بعض على الريق\” بدلق ماء الاستحمام أمام بيوتهن، لتثبت كل منهن أنها مارست الجنس بالأمس..\”نسوان نابها أزرق بعيد عنك\”.

يلتقط جاد مظاهر عالمه المحسوس، في انعكاسات داخلية تظهر ضجراً وجودياً، ولا جدوى كبيرين من فكرة العيش نفسها. تغلق قصة الكاتب شباكها على المشهد/ الفكرة، فنجدها مطوّقة بإحكام، ومأسورة بشكل نهائي في المهارة التي تختم القصة، او ضربة النهاية والكلمة الأخيرة. الخواتيم، سر صنعة اغلب قصصه، وهو ما نشعر به في \”قلب وطلع له راجل\” حيث جلال الأعمش الذي فقد بصره بسبب الخمر المغشوشة والذي يصول ويجول في الحارة وهو يتطلع إلى السماء ويقول \” والله يا ناس .. قلب وطلع راجل\” حتى يشاركه بطل القصة الحالة ويردد معه نفس المقولة.

في مزيد من البراعة، في جسد القصة وخاتمتها تأت قصة \”دبوس الصول محمود\”  التي تبدأ بصول يقود فرق الموسيقات العسكرية  بالعصا الخشبية المعروفة باسم \”الدبوس\”  والمثبت عليها تاج الملك والتي  تقع منه أثناء العرض وتعرضه لمحاكمة عسكرية، لكن ينقلب الأمر إلى ترقية وتقليد تتوارثه الأجيال.. أما \” مدام نحيلة\”، فهي  امرأة بضة للغاية ونحيلة هو اسمها على غير مسمى؛ ما يسبب لها الكثير من مفارقات السخرية والإحباط.

وحين تقرأ \” مياصة قطة\” تخوض من تلقاء نفسك في أجواء غرائبية لا تعرف أولها من آخرها وحقيقتها من خيالها، لكنك تشعر أنك متورط فيها حتى تكاد تلتقط أنفاسك بصعوبة أو ربما تحس بـ\”خربشة\” القطة وما تركته في وجهك من جروح لاتنسيك \”بائعة الفول النابت\”، تلك القصة التي تطرح سؤال الطبقية يوازيه ملمح البؤس في مجتمع يحتفي بـ\”الفول النابت\” الذي تصنعه الست أم أحمد، لكنه يرفض أن يلعب ابنهم مع حنان ابنة أم أحمد :\”حاجة تقرف، ما بقاش غير بتوع النابت كمان يلعبوا مع ولاد الناس، هي البلد دي جرى فيها أيه؟\”.

تزداد التجربة  ثراء في \”لضم الإبر\”، التي تبدو الحياة فيها ساكنة عند نقطة ثابتة في مشهد من تكراره يبدو أحادياً وكأن الكاتب يكرس رغبته في إشراك القاريء، مشاركة حقيقية، في كل ما تراه عينه:  \” فالوالدة لا يعنيها إن كنت أذاكر دروسي، أو مستمتعاً بمشاهدة مباراة كرة قدم أو فيلم أو مسلسل، أهم شيء في حياتها أن تكون الإبرة في يدها ملضومة دائماً، ومنذ لحظات قليلة فقط اكتشفت أنا ووالدتي أنني أجيد لضم الإبر\”.

وتتعدد قصص محمد جاد وتتعدد شخصياته المختارة ، وهي شخصيات تستأهل أن يُحكى عنها، كما أن سرده هو محاولة لكسر عزلة، وتقديم متعة خالصة،  واتصال حميمي بذاكرة بعيدة في لحظة وعي حسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top