ماذا يعني لكاتب أن يتوغل في الزمن؟ أن يمشي فوق منحدر الذكريات؟ أن يفكك من التاريخ رموزا ويكوّن صورة غير مثقوبة؟ أن ينظر وراءه ولا يحجل في الخيط الرفيع بين الغياب والحضور؟ هو السؤال الذي \”تكعبلت\” فيه حين قرأت للكاتب والناقد محمود عبد الشكور كتابه \”كنت صبيا في السبعينيات.. سيرة ثقافية واجتماعية\”، صدرعن دار الكرمة للنشر والتوزيع، الذي سلمني لسؤال آخر: ما الذي أراد أن يخبرنا به \”عبد الشكور\” وهو يتجلى في معاينته لذكرياته في مرحلة السبعينيات كحقيقة ماثلة عن وطن مراوغ في الخيال؟ تولد الأسئلة على إيقاع الكتاب الذي يقفز من حكاية إلى أخرى ليصل على خطى واضحة إلى تلك النقطة التي يتحرر فيها الوعي من ضباب الماضي.
يخوض الكاتب لعبة التوغل في الزمن، يكتب عن طفولته وصباه في مرحلة شائكة من تاريخ البلاد؛ تغير فيها النسق القيمي والاجتماعي والفني والثقافي، يلمس الانفلات الزمني الذي حدث وتحطمت فيه سيرورة الزمن الستيني دون وقفة أو استراحة، ليحل محله كالصاعقة زمن جديد له ملامحه المختلفة، هو ما يرصده \”عبد الشكور\” في كتابه بطريقة فنية تتجاوز السرد النمطي والمعتاد؛ ويتطرق من خلالها إلى زوايا وأبعاد فرعية أخرى تدور في النهاية حول الزمن الذي يشغل بال الجميع، يؤرق المفكرون ويتغنى به الموال الحزين أو يسبه ويتحسر عليه المعذبون في الأرض، يتصاعد خط الحنين الروحي والنفسي منذ اللحظة الأولى التي تبدأ بوصفه لبيته في شبرا وهو طفل في الخامسة من عمره \”أقرب إلى الانطواء، يفرز الغرباء بنظرات متشككة\”، طفل يتبع أمه كظلها ويصفق في سعادة حين يطل من البلكونة ويشاهد الحاوي في الشارع ويفزعه الصراخ واللطم في المشهد المهول لوفاة جمال عبد الناصر، تلك اللحظة التي تلألأت في ذاكرته وكانت المفتتح كما شكلت أول استفهام في حياته عن ناصر كزعيم استثنائي، وبوعي المحلل يفرد الكاتب أسباب حزن المصريين على ناصر وكذلك رفضهم السابق لتنحيه عن السلطة بعد نكسة 1967، فيراه حاكماً وطنياً، وظهراً للغلابة من بين كل رؤساء مصر من دون أن يستثني حاكماً بعد 1952، ويؤكد أن انحيازه للفقراء لم يكن ادعاءً، وأنه كان طاهر اليد ولم يحكم قط من دون تأييد شعبي جارف، يسترسل الكاتب عن ناصر في الفصل الأول والتمهيدي لمرحلة أخرى ولا تختلط عليه الوجوه أو المواقف، لا يقع في فخ العواطف المندفعة، وإنما تحركه قناعاته الشعورية والعقلية في نفس الوقت، وأيضاً إدراكه بالتغير الذي يرصده بالمشاهدات، والذي تكوّن بمراكمة التجارب والمعرفة، فنرى إلى تقلب الزمن وتحولاته، سعة رؤية الكاتب وملاحظاته وأمانة تعامله مع الأحداث بسرد يفتح الطرقات لتفسير العبور من عصر لآخر، من دولة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية إلى دولة \”العلم والإيمان\” و\”الرئيس المؤمن\”، من شبرا واكتشافات الحياة الأولى والحاوي والحضانة وزمارة بائع الدندرمة وعم ملاك البواب وزوجته أم بيسة وعم صابر الحلاق وأحمد طه نائب شبرا الشهير، إلى الحياة بجرعات كبيرة في الصعيد وصولات وجولات بين مدن وقرى الجنوب وواقع جديد فيه الجدة والجد والعمة والخال والأقارب والرفاق الجدد، من وفاة عبد الناصر إلى اغتيال السادات؛ رحلة طويلة يحكيها محمود ابن أستاذ الفلسفة، الصبي الذي أحب الكرة ولم يستطع أن يتجاهل السياسة كما لم يستطع أن يتخلص في مراهقته من حساسيته الزائدة لأنه \”ابن الناظر\”، يكتب بلغة نشطة تخلو من \”تقعير\” أو \”تنظير\”، وإنما كمن يسبح فوق سطح بحر لا حدود له، يرسم صوراً لحياته هي انعكاس لمنعطف مؤثر في تاريخ الوطن وناسه، حيث تبدلت الأحوال على كل المستويات؛ شكلاً ومضموناً في السياسة والاقتصاد والمجتمع والفن والرياضة، نشعر معه بطعم ساندويتش الطعمية بالفلفل الأخضر الذي أكله عند دخوله أول مرة السينما، ونعبر معه جسر الأغنية من أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد وعبد الحليم الذي وصفه بأنه عابر للأجيال، إلى الشيخ إمام ونجم والفور إم والفرق الغنائية وبرنامج العالم يغني وفوازير نيللي، ونعيش نصر أكتوبر والغبن الذي تعرض له الفريق الشاذلي، ونحملق في انتفاضة يناير 1977 والسادات في الكنيست ومعاهدة كامب ديفيد، ونتابع الأحداث الجسام في الموضة والمجتمع حيث الشارلستون والقمصان الملونة والفساتين القصيرة، ومقتل المذيعة سلوى حجازي، وخلي بالك من زوزو،أوسكار ونادي السينما، وهيتشكوك، والرجل الأخضر، ومدرسة المشاغبين، ومحمود الخطيب، وحسن شحاتة، وكأس العالم، والمغامرون الخمسة، وأبلة فضيلة ومجلات سمير وميكي وماما نجوى وبقلظ، وبروس لي والكاراتيه، وجماعة التكفير والهجرة، واغتيال الشيخ الذهبي، والثورة الإسلامية في إيران، وجنازة السادات؛ حيث تتوقف الحكاية عند حدود ما تذكره محمود عبد الشكور عن هذه المرحلة الفاصلة فأيقظ الماضي على طريقة ماركيز، وكما استهل به كتابه: \”الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه\”.