ناهد صلاح تكتب: عمر الشريف.. على يدي!

ذات مرة سألوا عمر الشريف:

– هل أحببت زوجتك؟

– نعم.. بطريقة شرقية. زواجي لم يكن زواج حب، بمعنى أنه لم يكن حبا عاطفيا، لقد كان زواجا أساسه الإنسجام والمحبة والصداقة، وأي زواج يقوم على مثل هذه المشاعر يمكن أن ينجح، ولقد نجح زواجي بالفعل، لأننا بقينا زوجين لمدة عشرة سنوات، وخلال هذه السنوات العشرة، لم أخدع زوجتي أبدا.

– هل كنت سعيدا؟

– لقد كنت قانعا.

بالضربة القاضية، اختصر عمر الشريف قصة حبه الكبيرة الذي لم يزل يحكي عنها الجميع ويتحاكى حتى بعد موت فاتن وإصابة عمر بالزهايمر، وصفها مجرد علاقة انسجام، علاقة ود وفقط، ولا حديث عن حب زلزل كيان طرفين وجعلهما يوما ما يقفان على ضفة التحدي، ومع ذلك لو كنت تسأل بنات جيلي عن فارس الأحلام، لكنت شاهدتهن قبل أن تسمعهن ينقسمن إلى معسكرين، واحد يقول لك على الفور: رشدي أباظة، والثاني يهتف: عمر الشريف، مع أنه ولا واحدة من المعسكرين رأت رشدي أو عمر في الواقع أو حتى شبيها لهما يمكن أن يكون لها \”ضهر وسند\”، ولا سمعت أن رشدي اكتفى بحبيبة واحدة ولا أن عمر تمسك بحبيبته فاتن حمامة وحافظ عليها. فما الذي كان يُعجب البنات في الاثنين؟ عضلات رشدي أباظة وجسده الرياضي المشدود والمقولة الشائعة: \”اللي ما اتجوزش رشدي أباظة ما عرفتش يعني إيه جواز\”، ولا عيون عمر الشريف النعسانة حين ينادي فاتن حمامة ويقول لها: \”بطاطس\”؟ عن نفسي وقفت على الخط الفاصل بين الاثنين، تارة كنت أميل إلى رشدي وتارة كنت أقول: لا رجل إلا عمر، وفي كل الأحوال لا أملك مبررا لتأرجحي بينهما سوى حكايات الوهم التي أحاطت بهما.

لم يتح لي ظرف الزمان أو المكان أن أقابل رشدي أباظة، أما عمر الشريف فقد رتبت لي الصدف مواعيدا رحت أبصر فيها المقامر الجريء الذي سحبه حلمه حتى آخر الدنيا، فدوّن مصيره وجعله أقرب إلى القدر منه إلى الغموض،\”الخواجة\” كما أطلقوا عليه عند إطلالته السينمائية الأولى في مصر، وعيناه الغارقتان في حنان عميق الحزن، ورقة وليونة أخاذة في السحر الذي دوّخ البنات، طائر الشمال المتطلع دائما بشغف إلى الشمال، جاءت عائلته من الشام في الشمال وعاشوا في الأسكندرية شمال مصر، وحين استطاع التحليق طار على الفور إلى الشمال الأبعد، حيث كانت \”نداهة أحلامه\” تناجيه إلى فضاء أوسع، وصار نجما فارقا في سماء العالمية هاديا للآخرين الحالمين بجموح مثل جموحه ومطمعا للمغامرين وصائدي الأخبار وذوي المخيلات الواسعة في إثارة الفضائح.

في كل مقابلة معه كنت أتخيله يقف على شاطيء بحر الأسكندرية شاردا، ينظر إلى الجانب الآخر من الشاطيء، حيث البلاد البعيدة التي تغرب في موانيها ومطاراتها وفنادقها سنوات طويلة، ويتساءل: أكان لابد أن يخوض تلك الرحلة؟ لكني كنت أبصر الطفل الصغير الذي يحطم سياج النجومية في دقائق، اقتربت منه ذات مرة في إحدى دورات مهرجان الأسكندرية السينمائي وكان يجلس في بهو الفندق، وأشرت إلى بطلة الفيلم التركي المشارك في المسابقة الرسمية وقلت له: شايف البنت الحلوة دي، هي ممثلة تركية وعايزة تتصور معاك!

قال: خليها تيجي.

قلت: لا.. إنت اللي هتقوم وهناخد لكم مشهد فيديو وهي بتسلم عليك.

ضحك: عايزاني أمثل!

وكاد المشهد أن يتم على خير لولا أن المصور العبقري انضم إلى صفوف المتفرجين ونسى أن يضغط زر تشغيل الكاميرا، فاقتربت من عمر مرة أخرى وأشرت هذه المرة إلى المصور، وقلت: شايف المصور ده، ما صدقش إنه واقف قدام عمر الشريف وراح يتفرج عليك ونسي يشغل الكاميرا.

قال: عايزاني أمثل تاني!

قلت بحذر: آه.

ضحك: ماشي.

وانتهينا من المشهد هذه المرة، ثم جلست معه نصف ساعة حكى لي فيها تفاصيل متناثرة من حياته، ورحت أفتش معه كيف كبرت نجوميته كحبة سمسم صغيرة تناثرت في أفق سماوي لتصير بستانه المتفرد، تركته بعد أن حصلت على غنيمتي من حوار مسجل وتابعته يفرد ظهره على مقعده هادئا حتى اقترب منه أحد الصحفيين وبمجرد أن نطق باسمه، صرخ فيه: خلاص.. كدة كفاية النهاردة.

حينئذ لم أره سوى الطفل الذي اعتاد أن يتحرك في ظل والدته المشغولة بمظاهر أرستقراطيتها ثم يلعب معها لعبة الكر والفر، أرادته أمه \”ستايل\” فانتزعته من التعليم الفرنسي وألحقته بـ\”فيكتوريا كوليدج\”، مدرسة انجليزية صارمة تصنع شخصيته كما ترغب الأم، والتزم الابن قبل أن يحلق في طيرانه بعيدا.

التمثيل كان قدره الذي رفضه أبوه تاجر الخشب الذي لم يصدق أن الابن يخالف قواعد صعوده الطبقي، وصرخت أمه كأن صاعقة وقعت فوق رأسها: \”أمي ما كانتش بتفكر في التمثيل، هي زعلت لما قلت لها: أنا عايز أكون ممثل، زعلت وقالت لي: إيه ممثل ده؟ آرتيست يعني لا، كان عيب أيامها، أنا لما كنت صغير كان وقت ثاني، كان التمثيل ده حاجة عيب عند الناس، رحت قلت لها: أنا بحب التمثيل، قالت لي: لا، قلت لها: بصي يا ماما يا راح أمثّل، يا راح أموّت نفسي، راح اقتل نفسي، راح انتحر، طبعا ما كنتش ناوي أنتحر ولا حاجة، لكن أنا قلت أخوّفها، قالت لي: إزاي تعمل ده؟ فراحت لأبويا اللي كان مش راضي خالص هو كمان وكلمته، قالت له: لا، الواد راح ينتحر، خليه بقى يمثل، فخلوني أمثل\”، وكان \”صراع في الوادي\” مع يوسف شاهين مفتتحه في السينما ومفتاحه إلى قلب سيدة الشاشة وزواج وطلاق صادم وانطلاق لأوروبا وأمريكا، واشتهر عمر الشريف في أفلامه الأجنبية بشخصية الرجل الهادئ والغامض الذي يمتلك سحرا خاصا يؤسر النساء ويجذبهن إليه، ولا أحد يستطيع أن يمسك هويته، الكاثوليكي ميشيل شلهوب الذي خلعوا عنه مسيحيته وقالوا يهودي هاجر إلى أمريكا يتمسح في اليهود، رمز الرومانسية والحب الذي تعذبت حبيبته بالفراق دون أن يعترف بأنانيته، العالمي الذي انغمس في الغواية وصار نجما لأغلفة المجلات الغربية وترشح للأوسكار، المصري الذي عاد إلى مصر وتورط في تصريحات مثيرة للجدل، هاجم الجميع من أول جمال عبدالناصر حتى الجمهور الذي يشاهده ثم إعتذر، الممثل الذي يُشخص الحكايات ولم يعرف أبدا كيف يصوغ حكايته وترك الحكاية هي التي تشده إلى عوالم ملغزة، لما قابلته آخر مرة  في صحبة د. زاهي حواس لإجراء مقابلة تليفزيونية كنت أعدها للفنان سمير صبري، كان حائرا، حذرا، محيّرا كعادته، الزهايمر استحوذ على ذاكرته، لكن كل ما ومن حوله يتدحرج في حضوره المتوّج بهالته، الكل يتلهف إلى صورة أو سلام بـ\”الإيد\”، فلما سأله سمير صبري عن فاتن حمامة، راح يحكي عن والدته وذكرياته في فيكتويا كوليدج.

…..

تمثال رخامي هو النسيان. تمثال

يحملق فيك: قف مثلي لتشبهني.

وضع وردا على قدمي. (محمود درويش)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top