\”أنا كده.. حظي كده.. ربنا خلقني كدة\”.. صوت نجيب الريحاني يلح عليّ منذ بداية النهار، وكأنه يرشدني إلى غض الطرف عن أسئلة قاسية، وينهاني عن اصطياد الوجع بسؤالي الوجودي: \”من أنت؟ ومن أنا؟\”.. الريحاني يتسلل إلى رأسي ويُعلمني كيف أشهر كل أسلحة السخرية كما أشاء وأنفض عن رئتي دخان القلق.
تمنيت في هذه الأيام سعفة نخيل ولم أحصل عليها، زمان لما كنت صغيرة في بلدنا التي لا تعرف النخل إلا قليلاً، كنت أنتظر الأفراح، حيث يزينون الكوشة بجريد النخل، وساعتها أحصل على سعفتي.. صحيح أنها في كل مرة كانت تجرح يدي، لكني لطالما أحببت رائحتها وملمسها، خصوصاً عندما تكون خضراء.
قبل أن أعبر الشارع، يتكعبل رجل في جلبابه الطويل ويقع على وجهه من فوق الرصيف، أهرع عليه وأساعده في النهوض ولملمة زجاج نظارته الطبية الذي انكسر فيما هو يبكي، وتخرج حروف كلماته متقطعة: مش لاقي شغل أصرف على بناتي التلاتة.. أربت على يده الناعمة وأعطيه ما فيه من النصيب وأمشي، ثم ألتفت ليطمئن قلبي؛ فأجده يُعاود الكرّة ويقع أمام عابر آخر يلملم له زجاج نظارته.. صوت الريحاني يُحاصرني: يا لطيف.. يا لطيف
في وسط البلد، على ناصية سوق التوفيقية، تتلفت بائعة الجبن حولها، فيمر شاب باسم يساعدها في تنزيل حمولتها الثقيلة من الجبن والبيض البلدي، ترفع كفيها المشققتين وتدعو له: روح يا ابني يرزقك ربنا بالحلال.
أنزل درجات مكسورة لمرسى على النيل وأتجه إلى مركب شراعي صغير، يفاجئني المشهد كما فيلم \”مراتي مدير عام\”، المراكبي وزوجته يتناولان الغداء، تقول الزوجة: بسم الله. أرد: شكراً، ألف هنا، فتعاود: معلش لسه راجعين، ناكل لقمة وتطلعي معانا.. حضرتك لوحدك؟ أرد: لوحدي ودايماً لوحدي.
أجلس وأتسمر مكاني كأنني صرت جزءاً من خشب المركب، صديقي التركي هو من دلني على فكرة الهروب في النيل بمركب شراعي، في البداية قلت له بنفور يبدو أنه ارتسم بوضوح على وجهي: لكن النيل نزهة الغرباء، فرد بحسم: إخرسي.. وخرست.
لا أرى أمامي سوى النيل.. هل النيل ينسى؟ من عاداته أن ينسى! كما يقول محمود درويش. صوت الريحاني يتحرش بي أكثر \”يا لطيف.. يا لطيف\”، لم تزل عيناي معلقتان بالنيل، أحاول أن أتباهى بامتداد النيل أمامي، لكني كنت أفكر في أنني لم أحصل حتى الآن على سعفتي. تدور المركب وأدور معها كما دورة الحياة التي تسرقنا ونحن نعيش على الهامش ننتظر اللحظة المواتية للحب أو السخرية. \”عشانك إنتِ أنكوي بالنار وألقح جتتي وادخل جهنم وانشوى واصرخ واقول يا لهوتي\”، أضحك هذه المرة مع الريحاني المسكون بالحزن.. أيقونة ضحكتنا المصرية التي لم نفكر يوماً أن ضحكته مسيحية حرام على المسلمين، تخطفني نظرة الشجن التي تطل من عينيه، وتلم كل مساكين الأرض وكبرياء دموعه (ضحيت هنايا فداه.. اشهد يا ليل وقول).. اشهد يا نيل وقول: الله محبة.