الأيام تمر وتجر وراءها براهين الخيبة، وأنا تقريبًا لم أعد أستطع تجاوز هذه اللحظة المرعبة منذ شاهدت فيديو لخمسة مسلحين في ريف حلب، خمسة وحوش من عناصر حركة نور الدين زنكي، وهي من فصائل الجيش السوري الحر المعارض للنظام (تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية معارضة معتدلة)، يقطعون رأس عبد الله عيسى؛ طفل في الثانية عشر من عمره يقبضون عليه وهو جريح لا حول له ولا قوة، ولا آدمية تسانده، بتهمة أنه \”يقاتل إلى جانب القوات الموالية للحكومة السورية\”!
الخمسة المسلحون يحيطون بالطفل المفزوع، أمسك أحدهم شعره بعنف ورفع يده بسكينه اللامع وسط تكبيرات رفاقه وتهليلهم، وأمام كاميرا توثق الحدث الوحشي، ثم قطع رأس الطفل ببرود وهدوء لا يؤرقه شيء ولا يوقظه صرخة الصغير ولوعته!
ذُبح عبد الله عيسى في المخيم الفلسطيني حندرات بحلب، يعيش فيه نحو سبعة آلاف شخص، اضطر العديد منهم إلى النزوح والهروب من الحرب الشرسة التي تمزق سوريا، ليصيروا نازحين إلى الأبد من جغرافيا إلى جغرافيا، ويفرون من قاتل قبل أن يقتنصهم قاتل آخر، ولو كان القاتل تأمل وجه الصغير عبد الله قليلًا؛ أكان هناك سبيل لأن يلدغه السؤال: أي تاريخ أنجبه وأتى به إلى هنا؟ أكانت هناك فرصة لتغيير الاحتمالات؟ لكن القاتل نفسه ابن التواريخ الحمراء.
إنها صورة جديدة تمتد خنجرًا في القلب لمن يحس ويدرك، طفل جريح، والعادي أن يكون فلسطينيًا، ونحن الذين اعتدنا الجرح والموت الفلسطيني على الهواء مباشرة؛ بالرغم من أنه صار هناك غيره الكثير من الموت العراقي والسوري واليمني و… أطفال من هنا وهناك تتصدر صورهم قوائم الموت، فما بال لو كان هذا الطفل فلسطينيًا في سوريا الحرب والإرهاب؟ ما باله لو كان بلا أبوين؛ بلا أرض تنبت الأشجار بدلًا من دخان القنابل؛ بلا سند إنساني واحد يتعلق فيه وهو يتوسل إلى الوحوش أن يتركوه يصعد إلى الله بالرصاص وليس بحد السكين؟ ما باله لو كان نازحًا ابن نازح ولاجئًا ابن لاجي، طفل بكامل جسده النحيف، تتمدد ساقاه المنفرجتان نحو حافة الموت، ساق في ضماده يمتد حتى الفخذ؛ وساق مستسلمة للألم والخسارة.
تحت شعره الأسود خوف مبلل بالعرق المنتشر فوق جبهته البارزة حيث تمتليء عيناه فزعًا وتوسلًا، ذراع متدلية بجواره تلتصق بالتراب ينبت منها وجعنا، ومعلق فيها أنبوب المحلول؛ وذراع مرفوعة ومغموسة بدمائه ومنها نقيس المسافة بين جسده وحذاء قاتليه.
سأله الإرهابيون أو (المعارضون المعتدلون!) عن أمنيته الأخيرة، فأجاب أنه لا يريد الموت ذبحًا؛ يريده رميًا بالرصاص، فردوا عليه: \”ع الذبح\”، وذبحوه.
أحدق في الصورة، وأنا التي لا أسمح لنفسي بمشاهدة صور العنف، لكن عيناي فلتت مني هذه المرة وراحت تفتش عن أي تفصيل في المشهد المظلم وقلبي مليء بالخجل على قدر الوجع، باغتني المشهد رغم أن القتل لم يعد مشهدًا نادرًا، وبصرف النظر عن أنين الضحية وهيستيريا الفاتل؛ فقد تورطت ورأيت المشهد وصدّقت القسوة والموت وعزلة الخائفين وتابعت صمت الساكتين عن هذه الجريمة وتوالت صور كل الأطفال ضحايا الحروب والإرهاب، وكما لم تنته بالطفل محمد درة منذ سنوات، الذي قتله الإسرائيليون في غزة؛ فإنها وصلت إلى الذروة مع عبد الله عيسى، ما يجعل السؤال: بأي ذنب قُتلوا؟ هو سؤال العجز والحرج، أحاول أن أنفض السؤال عن ذهني؛ فيما أشاهد هذا المشهد من الفيلم الشهير \”ناجي العلي\”:
محمود الجندي: هي الجيوش العربية هتيجي إمتى؟
نور الشريف: الجيوش العربية مش فاضية.
محمود الجندي: هي بتحارب في حتة تانية؟
من المؤكد هو سؤال المسخرة إذا تم طرحه في زمننا هذا، لكن، ألم يكن زمن الفيلم ذاته مسخرة؟ كل الأزمنة مسخرة، وكل الطرق منصوب فيها الفخاخ والحصار ممتد، والقتلة لم يتعبوا من جراحنا.
ولا يسعني؛ من باب السخرية لا أكثر ولا أقل، سوى أن أقول مع ناجي العلي: لقد كنت قاسيًا على الحمامة لأنها ترمز للسلام.