علاقتي بالمسرح ميئوس منها؛ لا حل لها، كخبطة على الرأس أدرك جيدا أنها قادمة ولا أتفادها وأُجهز نفسي للوجع وكلمة \”آه\”، التصرف الـ\”رد فعلي\” وأنا أتشبث بمقعدي لمدة ساعتين أو أكثر حتى ينتهي عرض مسرحي فيما أنظر إلى خشبة المسرح مشدوهة و\”مفنجلة\” عيوني، كأنني مسلوبة الإرادة لا أفهم لماذا قبلت بهذه الوضعية، حتى حدثت المعجزة وقابلت سوسن بدر وكانت تقوم ببطولة \”طقوس الإشارات والتحولات\” على مسرح الهناجر، ولأنه النص الذي كتبه سعد الله ونوس وهو يصارع المرض في سنواته الأخيرة ومنحه إلى طابعه الشكسبيري لمحاته الفنية اللئيمة التي تغوص في الدواخل المركبة للشخصيات وتجرأ على مساحات العتمة في مجتمعاتنا مستلهمة من التاريخ ما يجعلنا نعيد القراءة والتأمل، ولأنها سوسن بدر صاحبة العينين الواسعيتين التي تخطف الناظر إليها قبل أن تنطق فتكاد تخلع القلب من مكانه أو على الأقل تجعله ينبض من جديد، الممثلة التي يندر أن تصادف مثلها؛ فلا يلزمها الوصف والمسمى والولع بالشكل والإطار، لأن الله منحها اختراق الجاذبية والصورة ليهبط فيها الفن ونحظى نحن بالحضور الأخاذ، ذهبت إليها في هذا التوقيت لإجراء حوار صحفي معها وحين دخلت غرفتها في المسرح قبل صعودها إلى خشبته؛ سألتني: شفتِ العرض؟ فأجبت بكل صلافة: لا. بس قرأت نص سعد الله ونوس، وبعدين أنا عارفاكِ كممثلة! فالتفتت نحوي وقالت: وأنا مش هعمل الحوار غير لما تشوفي العرض، فلم يمكن هناك مفر سوى أن أستعيد وضعية المشاهدة المسرحية دون تعليق، وشاهدت سوسن بدر على المسرح لأول مرة؛ فأصبحت وجها لوجه الرياح وأنا التي أعاني أساسا من خلل في المواجهة وكسل في متابعة ممثلة كل إحساس فيها يتحرش بالجمهور دون مزاح أو رحمة، وتساءلت: ما هذه المصادفة الطائشة التي اصطادتني وجعلتني أركض وأصعد وأنزل وأهمس وأصرخ مع كل حركة منها ليتحقق العصي في عرض عمدتني فيه سوسن بدر لحب المسرح من مدخل مختلف؛ شرقت وغربت ومن حسن حظي أنني كنت هشة وجاهزة للامتثال لمهارة ممثلة تجتهد لتكون واحدة من الحلول السماوية في جسد التمثيل لا برق نجمة يفر عابرا ويزول خلف كواليس الزمن، ولعل هذا ما رآه فيها شادي عبدالسلام حين صدق أن الجنوبية السمراء هي نفرتيتي أو أميرة فرعونية هاربة من المعبد، حسب توصيفه، ورشحها لبطولة \”إخناتون\” الفيلم الذي لم يتحقق ولم يجمعها بعمر الشريف حينذاك، لكن سوسن لم تغوها أسطورة الملكة ومشت طريقها محملة بنبوءة التمثيل وهوى أرضه الخضراء، ومنذ إطلالتها الأولى في \”حبيبي دائماً\” قالت: أنا هنا. وأصغى الجميع إلى موهبتها وهي تصغى إلى تأملها الذي قادها إلى التعدد والتنوع في أدوارها بنضج الدارس لفن التمثيل والذي مسه بعض من عمق شادي عبدالسلام ومن أسرف الله عليه من موهبة وخيال وآدمية هي سرها في الإبداع وتقمص الشخصيات المتنوعة، وجه مفتوح على الطبيعة في \”شمس الزناتي\”، وامرأة حرة لا تكسر سكين الغل صلابتها في \”سلام يا صاحبي\”، وتحاول أن تنجو من مكائد المجتمع في \”الأبواب المغلقة\”، ولا تمضي وفق رياح هذا المجتمع في \”أسرار البنات\”، وملدوغة بالأمل الجريح في حلم خرافي يغير من مصيرها لتصعد من الدرجة الثانية إلى القمة في \”ديل السمكة\”، أو أم تحاول أن تنتصر لهواجسها في \”من نظرة عين\”، وهي غير أم أخرى تنتقم من الغياب بحضور الجسد مع زوج بشع في \”حين ميسرة\”، أو راقصة تخطاها الزمن في \”الفرح\”، أو تلك المرأة الذي جرها المصير إلى اللعنة لتكون هي وأسرتها كبش فداء لمجتمع البؤس والفقر والخراب في \”الشوق\”، وتتوالى الأدوار في السينما والتليفزيون؛ تدور الكاميرا وتدور الموبينة وتجر سوسن بدر إلى سماءها الأولى؛ قاموسها السحري الذي ينتصر إلى هويتها كممثلة لا ترضى عن أحلامها بديلا.